ربى أبو فاضل (صحيفة الديار)
لم يعد الحديث عن غلاء المعيشة في لبنان توصيفا عابراً لأزمة اقتصادية، فلبنان اليوم يحتل مرتبة متقدمة بين الدول الأغلى في الشرق الأوسط، بل والعالم، نسبة إلى متوسط الأجور. فقد تصدرت بيروت المرتبة السابعة ضمن مؤشر تكلفة المعيشة العالمي لعام 2025 على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مسجلة 42.4 نقطة، ووصلت إلى المركز 168 عالميا، وفق بيانات قاعدة البيانات العالمية «نامبيو».
اشارة الى لن نامبيو تعدّ من الأدوات الأساسية لتحليل التوجهات الاقتصادية على الصعيدين العالمي والإقليمي، إذ توفر بيانات دقيقة وشاملة حول تكاليف الحياة في مختلف المدن، وتعتمد مقاييسها على مقارنة أسعار السلع والخدمات الأساسية، مع تلك الموجودة في مدينة نيويورك.
لكن هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، فهي تنعكس مباشرة على حياة اللبنانيين اليومية، فالأسعار في الأسواق ارتفعت بشكل متسارع، بينما بقيت الأجور عاجزة عن مواكبة هذا الغلاء، ما جعل قدرة المواطن على تلبية احتياجاته الأساسية شبه معدومة، ويعود جزء كبير من هذه الضغوط المعيشية، إلى الانهيار النقدي الذي شهدته البلاد منذ تشرين الأول 2019، عندما فقدت الليرة أكثر من 98% من قيمتها، وسط غياب سياسات دعم واضحة.
السلع تسعّر وفق سعر صرف مُتفلّت
ويشير خبير اقتصادي فضل عدم الكشف عن اسمه إلى أن «ما نشهده اليوم ليس تضخماً عادياً بل انهيار نقدي شامل، رافقه غياب الرقابة والسياسات الداعمة، ما جعل المواطن مكشوفا بالكامل أمام فوضى الأسعار»، مضيفا: «الأسواق تعمل بلا ضوابط، والسلع تسعر وفق سعر صرف متفلت، بينما الأجور ما زالت تحسب على أساس اقتصاد لم يعد موجودا».
تجاوزت تكلفة الحياة اليومية، قدرة شرائح واسعة من السكان على تلبية احتياجاتهم الأساسية، مع تجميد ودائع المودعين وتآكل القدرة الشرائية، ما عمق الفجوة المعيشية بين الفئات الاجتماعية، وقد انعكس هذا التدهور على نمط العيش، حيث خفضت العائلات استهلاكها إلى الحدود الدنيا، اللحوم والدجاج أصبحت كماليات، الأجبان تشترى بالقطعة، والمحروقات عبء على تنقل الطلاب والموظفين، بينما أصبحت الطبابة والاستشفاء شبه مستحيلة. ومع هذا الانهيار، تراجعت الطبقة الوسطى إلى مستويات تاريخية، فيما دفع اليأس عشرات الآلاف من الشباب إلى الهجرة، بحثاً عن فرصة عمل وحياة كريمة.
وينسحب المشهد ذاته على التعليم، فمع الارتفاع الفلكي لأقساط المدارس الخاصة، انتقل آلاف التلاميذ نحو التعليم الرسمي غير القادر أصلاً على استيعابهم، في ظل نقص في الأساتذة والموارد، ووجد الأهل أنفسهم أمام معادلة قاسية إما تعليم مكلف، أو تعليم غير قادر على تقديم الحد الأدنى من الجودة.
أسباب استمرار الغلاء
وفي ما يتعلق بالأجور، ورغم رفع الحد الأدنى للأجور مرات عدة منذ 2023، بقيت هذه الزيادات في معظمها «معنوية»، إذ لم تطبقها كثير من المؤسسات الخاصة، ما جعل الحد الأدنى الجديد كبيرا بالليرة، لكنه شبه معدوم عند احتسابه بالدولار، أو مقارنته بالسلة الاستهلاكية الفعلية.
ووفق بيانات برنامج الأغذية العالمي، بلغت تكلفة «سلة غذاء للبقاء» لعائلة من خمسة أفراد نحو 44.2 مليون ليرة (492 دولارا) في أيار الماضي، بزيادة 8.2% منذ بداية العام. هذه الأرقام، بحسب خبراء الاقتصاد «تشير إلى أن الحد الأدنى للأجور لا يغطي حتى 30% من الحاجات الأساسية، ما يعني أننا أمام أزمة دخل لا تقل خطورة عن أزمة الأسعار».
ورغم استقرار سعر الصرف عند حدود 89,500 ليرة للدولار، وتراجع التضخم السنوي إلى نحو 15%، لا تزال أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية في لبنان مرتفعة بشكل ملموس، مما يثقل كاهل المواطنين، ويعود استمرار الغلاء بحسب الخبير الاقتصادي إلى عدة عوامل مترابطة، أبرزها:
- تراجع القدرة الشرائية للدولار عالمياً.
- ارتفاع كلفة الإنتاج المحلي بسبب الاعتماد على مواد أولية مستوردة.
- ارتفاع كلفة الكهرباء والنقل.
- استغلال بعض التجار لتقلبات الرسوم الجمركية لرفع الأسعار.
- ضعف الرقابة على الأسواق واحتكار قلة من المؤسسات للسلع الأساسية.
ويؤكد أن ضبط الأسعار لا يتحقق عبر تدخل إداري وحسب، بل يتطلب تعزيز المنافسة من خلال دعم القطاعات الإنتاجية، خصوصا الصناعات الغذائية والزراعة، وتحسين البنى التحتية لتخفيض الكلفة التشغيلية للكهرباء والنقل والاتصالات، وختم إن «خفض الأسعار وتحسين القدرة الشرائية ، يعتمد على اقتصاد متوازن، قطاع مصرفي سليم، وبنية تحتية فعالة، تتيح للمنتج المحلي العمل بتكلفة مناسبة ومنافسة عادلة».
ضغوط نفسية واجتماعية
وبينما تبقى الحلول الاقتصادية شرطاً أساسياً لتخفيف الأعباء المالية، فإن استمرار الغلاء وانخفاض القدرة الشرائية، يترك أثره المباشر على الصحة النفسية والاجتماعية للمواطنين، إذ تتحول الضغوط الاقتصادية اليومية إلى قلق مستمر، إحباط، واضطراب أسري. ويؤكد خبراء علم النفس أن حالة عدم اليقين وانعدام الاستقرار، وخوف اللبنانيين من المستقبل، تضاعف مستويات الاكتئاب والقلق، لا سيما لدى الشباب والأهالي الذين يشعرون بالعجز أمام تلبية احتياجات أبنائهم».
مُقارنة الوضع اللبناني مع دول الجوار
وتتجلى أبعاد هذه الضغوط النفسية والاجتماعية بشكل أوضح، عند مقارنة الوضع اللبناني مع دول الجوار، حيث تظهر فجوة كبيرة بين الدخل وكلفة المعيشة. ففي الأردن، تعد كلفة المعيشة أقل بنحو 18% من لبنان، فيما ترتفع الإيجارات في بيروت إلى ما يقارب ضعفي ما هي عليه في عمّان، ما يجعل استقرار سعر العملة هناك عاملاً أساسياً في الحفاظ على القوة الشرائية، ومع حد أدنى يبلغ نحو 260 ديناراً (360 دولاراً) ، ومتوسط دخل يتجاوز 1500 دينار (2100 دولار)، يعيش الأردني في بيئة أكثر توازناً بين الدخل والأسعار مقارنة باللبناني الذي يرزح تحت كلفة مضاعفة ودخل متآكل.
أما في مصر، حيث تنخفض كلفة الحياة بين 60 و65% عن لبنان رغم التضخم المرتفع، فإن متوسط الراتب البالغ نحو 14 ألف جنيه (280 دولاراً) والحد الأدنى البالغ 7 آلاف جنيه، يترافقان مع أسعار سكن وغذاء ونقل أدنى بكثير، ما يمنح المصري قدرة شرائية أعلى نسبياً رغم انخفاض الأجور مقارنة بالدول العربية المتوسطة والمرتفعة الدخل.
وفي دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، قد تكون كلفة المعيشة والسكن والترفيه من الأعلى عربياً، لكن أسعار السلع والخدمات غالباً ما تتقاطع مع بيروت، غير أن الفارق الجوهري يكمن في مستوى الدخل، إذ تفوق الرواتب هناك بأضعاف ما يجنيه اللبناني، ما يجعل الكلفة نسبةً إلى الدخل أقل بكثير، ويوفر هامش عيش وادخار أوسع، ويُظهر بوضوح أن أزمة لبنان ليست في الأسعار وحدها، بل في انهيار قيمة الدخل مقارنة بكلفة المعيشة.
وتصدرت مدينة دبي قائمة أغلى المدن العربية بتكلفة المعيشة بحصولها على 58.0 نقطة، تلتها مدينة أبو ظبي في المرتبة الثانية بـ52.6 نقطة، بينما جاءت الإسكندرية في أسفل التصنيف واحتلت المرتبة الأولى كأرخص مدينة عربية بـ17.9 نقطة، وفقا لمؤشر تكلفة المعيشة للعام 2025 الصادر عن موقع «نومبيو».
إجراءات عاجلة
ويؤكد الخبراء الاقتصاديون أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب إجراءات عاجلة ومتعددة المستويات، تشمل:
- إصلاح السياسات النقدية والمالية وتعزيز الثقة بالنظام المالي.
- تطبيق الحد الأدنى للأجور بفعالية لضمان دخل يغطي الاحتياجات الأساسية.
- دعم السلع الأساسية والتعليم والقطاع الصحي العام لتخفيف العبء المالي على الأسر.
- برامج نفسية واجتماعية للشباب والأهالي لمواجهة القلق والاكتئاب الناتج عن الضغوط الاقتصادية.
- تشجيع المشاريع الصغيرة وفرص العمل المستقرة لتعزيز الدخل المحلي والحد من الهجرة.
وفي الختام، تبقى أزمة لبنان الاقتصادية والاجتماعية نموذجا صارخا لكلفة الانهيار النقدي وانعدام السياسات الاقتصادية الفاعلة، إذ لا يمكن معالجة الغلاء بمعزل عن تعزيز الدخل: حماية الأجور، ودعم القدرة الشرائية. التعامل مع هذه الأزمة يحتاج إلى رؤية شاملة تتضافر فيها السياسات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لإعادة التوازن بين الدخل وتكاليف المعيشة، وإعادة الكرامة والأمل للمواطن اللبناني.