غادة حداد/جريدة الأخبار
في بلد ينهكه الانهيار، يضع وزير الثقافة غسان سلامة أولويات واضحة: حماية الذاكرة، وترميم ما أمكن، وفتح نافذة جديدة للصناعات الثقافية باعتبارها رافعة اقتصادية. بين مواجهة التعديات يوميًا، وإطلاق مشاريع الترميم والرقمنة، يسعى سلامة إلى تثبيت دور الثقافة بصفتها قيمةً وطنية لا ترفًا
يقدّم وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة مقاربة واقعية وصريحة لموقع وزارته في بلد منهك. فالوضع، كما يصفه، هو نفسه وضع الإدارات اللبنانية: صعب جدًا، والقدرة على العمل محكومة بما تسمح به القوانين وبما تسمح به الإمكانات شبه المعدومة.
البداية كانت بإعادة ترتيب البيت الإداري الداخلي: تعيين لجنة وطنية جديدة لليونسكو، وتعيين هيئة جديدة للمتاحف بعدما بقيت الهيئة العليا للمتاحف سنوات من دون تعيينات. الخطوات ستتواصل لتشمل كل المؤسسات والمديريات والمصالح التابعة للوزارة، في محاولة لتثبيت الوضع القانوني للإدارة داخل هذه المؤسسة السيادية.
حارس الذاكرة
في مقابلة مع «الأخبار»، يغوص سلامة في تفاصيل عمله في الوزارة، الذي يتمحور جزؤه الأساسي على حماية التراث من التعديات، «أواجه كلّ يوم تقريبًا ثلاثة أو أربعة تعديات على المواقع الأثرية: في جبيل، وصور والأرز وطرابلس... في المناطق كلّها من دون استثناء.
هذا يفرض عليّ اللجوء إلى القضاء وتقديم شكاوى متواصلة، وأحيانًا الاستعانة بالقوى الأمنية، لأنّ التعديات على المواقع الأثرية لا تتوقف». والمواقع الأثرية في لبنان هائلة العدد. في البقاع الغربي وحده هناك 900 موقع، وعلى امتداد البلاد آلاف وآلاف من المواقع. ومن هنا، فإنّ وظيفة وزير الثقافة ـــ بصفته قيّمًا على الذاكرة الوطنية ــــ كما يصف سلامة، تبدأ بالدفاع عن هذه الذاكرة.
الوظيفة الثانية هي ترميم ما يمكن ترميمه. ورغم ضعف الإمكانات المالية للدولة حاليًا، تسعى الوزارة عبر الهبات الخارجية، وبالتعاون مع المنظّمات الدولية مثل اليونسكو وغيرها، إلى تنفيذ أكبر قدر ممكن من أعمال الترميم. وقد انطلقت ورش عدة متخصصة في ترميم الآثار والأبنية التراثية، منها قصر الأونيسكو وقصر بيت الدين وقصر الأمير أمين.
كما أنجزت أعمال الترميم في قلعة طرابلس. أمّا الوظيفة الثالثة للوزير، فهي تسويق الإرث الذي يمتلكه لبنان. لذلك تُقام معارض دائمة للمكتشفات الجديدة في الداخل والخارج. ويضيف سلامة، «نحضّر لمعرض ضخم، بالتعاون مع متحف «اللوفر»، سيُفتتح في 15 آذار (مارس) المقبل، حول الاكتشافات الجديدة في مدينة جبيل».
بهذا المعنى، يجد الوزير نفسه، يوم تعيينه، بمنزلة أكبر «مالك عقاري» في لبنان، يشرف على هذا الإرث، وتصبح مهمّته الدفاع والترميم والتسويق، وفقًا لإمكانيات الوزارة وبمساندة الهبات التي تستغرق وقتًا طويلًا للحصول عليها، لكن دائمًا ما ينجح سلامة في تأمينها.
الصناعات الثقافية: اقتصاد ينتظر الاستثمار
تعمل الوزارة على هذه المشاريع من دون موازنة، فدعم المسرح صفر، ودعم السينما صفر، «لذلك نحاول الوصل مباشرةً بين المنتج الثقافي أو الفرقة التي تحتاج إلى الدعم، وبين المموّل أو المتبرّع. وبصراحة، ننجح أسبوعيًا تقريبًا في إقناع عدد من المتموّلين بتقديم دعم مباشر لفرقة مسرحية أو موسيقية تمرّ بظروف صعبة».
يشدّد سلامة على أنّ الثقافة ليست ترفًا، بل ركيزة أساسية في مسار التعافي الاقتصادي. قبل الانهيار في عام 2019، كانت الصناعات الثقافية اللبنانية، من التصميم وصناعة الأفلام والكتب والطباعة والأزياء وغيرها، تشكّل نحو ستة في المئة من الناتج القومي، أي أكثر من الزراعة، ويعمل فيها ما يفوق مئة ألف شخص. ومع الأزمة، تراجعت النسبة من 6 في المئة إلى 5 في المئة.
من هنا جاء إصراره على وزير الاقتصاد عامر بساط، لتخصيص ساعتين كاملتين للصناعات الثقافية ضمن مؤتمر الاستثمار. فالقطاع ـــ كما يقول ــــ يمتلك أعلى إمكانات للنمو السريع، فهو لا يحتاج إلى مواد أولية، ولا يسبّب تلوثًا، ولا يتطلب استيراد خبرات، «وفي لبنان تسع جامعات تخرّج سنويًا دفعات من الشباب الذين يقوم عملهم الأساسي على الإبداع، في الكتابة والسينما والموسيقى والتصميم، وهو العنصر الأهم في بناء صناعات ثقافية صلبة».
لكن التحدّي الأكبر اليوم، الذي يختلف جذريًا عمّا كان عليه الوضع قبل 25 عامًا، هو أنّ لبنان توقّف عن تصدير منتجاته الثقافية، وبدأ يصدّر مبدعيه أنفسهم. لذلك، يسعى سلامة اليوم إلى جذب استثمار خارجي يعيد قلب المعادلة: «لا نريد الاستمرار في تصدير المبدعين، نريد العودة إلى تصدير إنتاجهم». ويضيف: «أنا لا أعتمد على الموازنة، ولا يمكننا الاكتفاء بالتذمّر من واقع المالية العامة. أريد استثمارًا خاصًا، لأنّ نسبته في الثقافة في لبنان كانت تتجاوز تاريخيًا الـ90 في المئة، وهذا أمر إيجابي جدًا. فالإبداع في لبنان منبثق من المجتمع لا من قرار الدولة». ويؤكد على أنّه لو كانت الثقافة في لبنان قائمة على تمويل الدولة، لكانت انهارت مع انهيارها، «لكن الحياة الثقافية بقيت حيّة لأن أساسها مجتمعي».
دور الدولة، كما يصرّ، ليس تمويليًا بل تنظيمي وتسويقي، من فتح أسواقٍ جديدة، وخلق فرص عمل جديدة، وتشجيع الاستثمار الخاص، الداخلي والخارجي، في قطاع الصناعات الثقافية. التمويل الوحيد الذي تحتاجه الدولة مباشرةً هو ذاك المتصل بوظيفتها السيادية، لحماية التراث والآثار ومنع التعديات، إذ تتداخل مهمات الوزارة مع القضاء والأجهزة الأمنية.
ثقافة بلا منافسة ومبدعون يهاجرون
لا يرى سلامة منافسة مع دول الخليج في إطار عودة بيروت كعاصمة للثقافة، ويفرح برؤية متاحف جديدة في دول الخليج والعالم، فهذا حقّ كل دولة، والطبيعي أيضًا أن تستفيد هذه الدول من الكفاءات اللبنانية في بناء متاحفها وإدارتها، هذا أمر جيّد وصحّي، ويضيف «لا منافسة مباشرة بيننا، لأنّ البيئة الثقافية في لبنان مختلفة تمامًا».
في لبنان تتجاور الثلوج والبحر، وتنتشر أماكن التصوير والموسيقى في الأبنية الأثرية، من المتحف إلى المكتبة الوطنية حيث تُقام عشرات الأنشطة الموسيقية والمسرحية وغيرها. يضاف إلى ذلك أنّ الجامعات تخرّج سنويًا مئات المتخصصين في الصناعات الثقافية، ما يجعل لبنان في موقع فريد لا في منافسة تقليدية مع أحد.
العقبة الحقيقية ليست المنافسة، بل الأزمة المالية التي دفعت عددًا من المبدعين إلى الهجرة. ويسعى سلامة، في حال لم يستطع إعادة من غادر، وقف هذا النزيف المستمر للمواهب.
أمّا التنافس الفعلي، فيظهر في قطاعات محددة تتلقّى دعمًا حكوميًا مباشرًا في دول أخرى، مثل قطاع الكتاب. فالكتاب في لبنان صناعة خاصة بالكامل، إذ ليس لدينا مطبعة وطنية ولا دعم مالي، «نحن في الوزارة نحاول مساعدة الناشرين على دخول الأسواق العربية، لكنهم يتنافسون مع دول تقدّم دعمًا كبيرًا للكتاب. والدولة اللبنانية اليوم عاجزة عن ذلك، وربما ستبقى كذلك لخمس أو سبع سنوات مقبلة.
من واجبي كوزير ألا أقف عند الشكوى، بل أن أتكيّف مع الواقع». ويشير إلى أن وظيفة الوزير أن يفهم مالية الدولة، فقد خسرت الموازنة نصف قيمتها، والناتج القومي خسر نحو 30 إلى 40 في المئة في السنوات السبع الأخيرة، لذلك لا بد من ابتكار حلول بديلة. ويؤكد على أنّ في قطاع حماية الذاكرة المادية، أي الآثار والتراث، لا حاجة إلى المال بقدر الحاجة إلى دعم القضاء والقوى الأمنية لوقف التعديات.
أمّا في مجال النشاطات الثقافية، فهناك حاجة إلى التمويل، لكنه خاص، لأنّ تاريخ الإبداع في لبنان تاريخ خاص أصلًا، «هذا ما ميّزنا عن الدول التي أمّمت الثقافة والمطابع ودور النشر واستوديوهات السينما. في تلك البلدان، كلما تعرّضت الدولة لانتكاسة مالية انهارت الثقافة معها، أمّا في لبنان، ورغم الانهيار المالي والمصرفي الكبير، بقيت الثقافة حيّة وقادرة على الصمود، وهذا بحد ذاته إنجاز استثنائي».
التصنيف في مواجهة الطعن
في ما يخصّ هدم «مسرح بيروت»، يوضح سلامة أنّ المبنى وُضع على لائحة الجرد العام، لكنّ مالك العقار تقدّم بطعن للمرة الأولى، فيما وزراء سابقون تجاوزوا هذا الطعن وأعادوا إدراج المبنى مجددًا على لائحة الجرد. لاحقًا صدر قرار ثانٍ مبرم عن مجلس شورى الدولة لمصلحة المالك.
وبما أنّ قرار وزير الثقافة بإدارج أي موقع على لائحة الجرد العام هو قرار وزاري، وبالتالي قابل للطعن، يرفض سلامة خيار جعل القرار نهائيًا، فهذا يسلب المالك حقه في الطعن، مؤكدًا على أنّه من الطبيعي أن يُعاد النظر في القرارات، إذ يمكن أنّ الوزير اتخذ قرارًا اعتباطيًا أو استند إلى معلومات غير دقيقة.
فإذا حكم مجلس شورى الدولة بحقّ المالك في تشييد مبنى آخر في الموقع، فعلى الوزير أن يكون النموذج في احترام القرارات القضائية. ويشير إلى أنّ القضاء يحكم في كثير من الأحيان لمصلحة الوزارة أيضًا.
التياترو: ترميم مؤجَّل منذ عقود
في مقابل قرار هدم «مسرح بيروت»، مسعى جديّ لترميم «التياترو الكبير» وسط بيروت، وهذه محاولة سلامة الثانية لإحيائه، بعدما حاول إيجاد حلّ عندما تولى وزارة الثقافة للمرة الأولى، لكن لم يتوافر التمويل يومها.
في محاولته الثانية، تبيّن للوزارة أن بلدية بيروت تمتلك أسهمًا في شركة «سوليدير»، فدُرسَت إمكانيّة أن تشتري البلدية المبنى من الشركة مقابل جزء من أسهمها، ثم تضعه في تصرّف وزارة الثقافة لإطلاق حملة عالمية لتمويل إعادة تأهيله وتحويله إلى مسرح، إذ يحتاج المبنى إلى ما بين 12 و15 مليون دولار لإعادة تأهيله.
وبناءً على هذه الفكرة، استبقت الوزارة الأمور، وأطلقت حملة تمويل دولية حتى قبل إتمام الصفقة بين «سوليدير» والبلدية. المفاوضات لا تزال مستمرة، ووافقت «سوليدير» مبدئيًا على البيع، فيما يجري التفاوض حاليًا حول السعر الذي ستطلبه من البلدية.
جبيل نحو نموذج الـ dépôt visitable
تستعد الوزارة لعرض مكتشفات أثرية جديدة من جبيل في متحف «اللوفر»، وهنا تظهر مشكلة لوجيستية في جبيل، تكمن في غياب متحف لعرض هذه المكتشفات، كما أنّ الأماكن الأثرية هناك لا تسمح ببناء منشأة كبيرة. لذلك تعمل الوزارة على تبنّي فكرة حديثة تُطبَّق عالميًا، وهي إنشاء dépôt visitable، أي مساحة لحفظ القطع الأثرية، تكون في الوقت نفسه قابلة للزيارة، وتكلِفتها أقل بكثير من المتاحف التقليدية.
يفترض أن تُقام قرب الميتم الأرمني في جبيل، بعد إطلاق مسابقة دولية للحصول على تصميم هندسي ينسجم مع طبيعة الموقع ويحافظ على الآثار، بحيث يصبح المكان مخصصًا لعرض مكتشفات جبيل.
يمكن أن يعمّم هذا النموذج على المناطق الأخرى، لكن قبل ذلك يسعى سلامة إلى الانتهاء من أعمال المتحفين في صور وصيدا. في صور، كانت هناك هبة من الحكومة الإيطالية، لكن بعد الانهيار تحوّلت الأموال إلى «لولار» وتعذّر سحبها لاستكمال المشروع.
تعمل الوزارة اليوم مع وزارة المالية ومصرف لبنان لإيجاد صيغة تسمح باعتبار هذه الأموال دولارًا. وإذا تمّت تسوية الأمر، يمكن الانتهاء من متحف صور الذي اكتمل نحو 80 في المئة منه. أمّا متحف صيدا، فهو يحتاج إلى تمويل إضافي، فقد موّلت الحكومة الكويتية المرحلة الأولى بحوالى ثمانية ملايين دولار، لكن يبقى نحو سبعة ملايين لإكماله.
المكتبة الوطنية مركزًا جامعًا
أمّا المكتبة الوطنية، فيشير سلامة إلى أنّ عدد زوارها يزداد يوميًا. وبما أنّ المكان غير طائفي وفي قلب المدينة، فقد قرّر تحويله إلى مركز ثقافي نابض. وقد استقبلت المكتبة أكثر من أربعين نشاطًا ثقافيًا منذ تشكيل الحكومة، مع معدل فعالية أو اثنتين أسبوعيًا. وفي الشهر المقبل، ستُنظم مسابقة شعرية بين الطلاب داخل المكتبة في مناسبة يوم اللغة العربية.
العمل الأهم الجاري اليوم هو مشروع الرقمنة، فقد حصلت الوزارة على هبة بقيمة 750 ألف دولار، وُقِّعت في باريس قبل أسابيع، لإطلاق المرحلة الأولى من رقمنة محتويات المكتبة الوطنية. يوضح سلامة أنّ الناس لم يعودوا يرتادون المكتبات كما في السابق. وبالتالي فإنّ الرقمنة تفتح الطريق للوصول إلى جمهور أوسع. هذا المشروع يحتاج إلى سنوات، لكنه انطلق فعليًا. وتعمل الوزارة أيضًا على البحث عن هبات إضافية لرقمنة الأفلام التي تمتلكها، بحيث تتحول المكتبة الوطنية، ابتداءً من كانون الثاني (يناير) المقبل، إلى مكتبة رقمية وسينماتك في آنٍ واحد.
زياد الرحباني مكرمًا
يوم أُعلن خبر رحيل الفنان زياد الرحباني في تموز (يوليو) الماضي، أكد سلامة على أنّ الوزارة ستعمل على تكريمه والحفاظ على أرشيفه. وقد بدأت بخطوات عملية لجمع أرشيفه، لكن العملية ستأخذ وقتًا لأن أعمال الرحباني مبعثرة، إلى جانب وجود عقبات تتعلق بملكيتها القانونية. كما يشدد سلامة على ضرورة رقمنة هذه الأعمال، لأن الاحتفاظ بها من دون تحويلها إلى صيغة رقمية ينطوي على مخاطرة في خسارتها، سواء كانت أغنية أو فيلمًا أو كتابًا أو نصًا. كما تتيح الرقمنة للجمهور الاطلاع عليها من منزله من دون الحاجة إلى زيارة المكتبة الوطنية.
وتعمل الوزارة، في إطار تكريم الرحباني، إلى تشييد تمثال لزياد في حديقة المكتبة الوطنية في منطقة الصنائع. ويلفت سلامة إلى أن الوزارة تولي أيضًا اهتمامًا كبيرًا بالسيدة فيروز. عند سماعه خبر وفاة زياد، عاد فورًا إلى لبنان، كما سبق وواكب حالته الصحية في المدة الأخيرة وحاول المساهمة في علاجه قدر الإمكان، ويقول «زياد غالٍ جدًا على قلبي وعلى قلوب اللبنانيين، ولن نسمح بأن يضيع تراثه».
أمّا بشأن مكان ترعرع السيدة فيروز في منطقة زقاق البلاط في بيروت وإمكان تحويله إلى متحف، فيوضح سلامة أنّ مجموعة منفصلة تعمل على هذا المشروع، لكن ثمة عوائق عقارية ومالية تتعلق بشراء الموقع. وهناك أيضًا جانب مرتبط برغبة السيّدة فيروز نفسها، إذ تقول إنها لم تعش في ذلك المنزل سوى بضع سنوات وإنّ معظم حياتها كانت في مكان آخر. لذلك، تعمل الوزارة على صيغة تضمن احترام رغبتها، وتكون في الوقت نفسه قيّمة ولا تكلّف الخزينة أكثر من قدرتها. ويؤكد سلامة على أنّ التواصل مستمر مع فيروز والمجموعة المعنية، ومحافظ بيروت، للوصول إلى حل يرضي الجميع.