هتاف دهام (لبنان 24)
بعد عام على اتفاق وقف إطلاق النار، يتضح أن الوضع لم يحقق أي تقدم فعلي، بل عاد إلى ما قبل توقيع الاتفاق، في ظل استمرار الخروقات "الإسرائيلية" الجوية والبرية وتصاعد وتيرة العمليات العسكرية. فعلى الرغم من وجود رئيس للجمهورية العماد جوزاف عون، وحكومة برئاسة نواف سلام، ومؤسسة عسكرية يقودها العماد رودولف هيكل تستعد لرفع تقريرها إلىمجلس الوزراء مطلع الشهر المقبل، فإن قدرة الدولة على فرض تنفيذ الاتفاق تبقى محدودة أمام واقع ميداني شديد التعقيد.
فـ"إسرائيل" تواصل شنّ عمليات عسكرية متقطّعة تُبقي الجبهة مشتعلة دون انفجار شامل، ما يسمح لها بفرض وقائع جديدة وتوسيع نطاق الاستهداف داخل الأراضي اللبنانية، في ما يرتفع منسوب المخاطر مع تزايد الحديث الدولي عن ضربة واسعة قد تشمل عمليات في العمق اللبناني أو تقدّمًا بريًا. وهكذا، فإن العودة إلى "نقطة الصفر" لا تعبّر فقط عن تعثّر الاتفاق، بل عن تموضع لبنان في قلب معادلة إقليمية مضطربة تحتاج إلى قرار سياسي موحّد ورؤية دفاعية واضحة لتحصين البلاد ومنع انزلاقها نحو صدام أكبر. ومما لا شك فيه أن حزب الله اعتمد في المرحلة الأخيرة نهجًا أكثر تشددًا في السرية والتكتم حول قدراته وإمكاناته، مكتفيًا بما صرح به الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم عن إعادة تنظيم الصفوف وسدّ الثغرات في المراكز القيادية، من دون الكشف عن أي تفاصيل إضافية تتعلق بالبنية العسكرية أو مستوى الجهوزية. في المقابل، تحدثت تقارير غربية و"إسرائيلية" عن أن الحزب استعاد عافيته ورمّم قدراته العسكرية وحصل على أسلحة وأموال جديدة، وهي تقارير لا يمكن فصلها عن السياق السياسي والإعلامي الذي يسعى إلى تبرير استمرار الاعتداءات "الإسرائيلية" على لبنان، والضغط على الدولة لدفعها نحو تنفيذ قرار نزع سلاح حزب الله ولو بالقوّة.
إن تحليل مسار المواجهة يظهر أن الحزب، في اليوم الأخير الذي سبق وقف الحرب، نفّذ عمليات إطلاق صواريخ ومسيّرات مكثفة طالت عمق "إسرائيل"، ما يشير إلى أنه لا يزال يحتفظ بقدرات عسكرية فاعلة تشكل، وفق توصيفات "إسرائيلية" وأميركية، عامل تهديد حقيقي للأمن ال"إسرائيلي". وخلال فترة الحرب والعام الذي تلا اتفاق وقف إطلاق النار، قامت "إسرائيل" بقصف معظم الأهداف التي تمتلك عنها معلومات مسبقة، واستنفدت إلى حد بعيد ما يعرف بـ"بنك الأهداف"، لتتحول لاحقًا إلى سياسة ملاحقة الأفراد واستهداف أي موقع أو شخص فور توافر معلومة استخباراتية عنه.
تعمد "إسرائيل" إلى اتباع سياسة تقوم على الترويع والضغط النفسي والاجتماعي للمدنيين، بهدف زعزعة الثقة بالمقاومة والتأثير على البيئة الحاضنة لها، بالتوازي مع زيادة الضغوط على الحكومة اللبنانية لدفعها إلى اتّخاذ خطوات داخلية تتعلق بسلاح حزب الله. ورغم التهديدات "الإسرائيلية" المتكرّرة بالتصعيد، تبدو العودة إلى حرب شاملة، بحسب العميد أكرم سريوي، خيارًا مستبعدًا في المرحلة الراهنة، إذ إن القضاء على حزب الله بالقوّة العسكرية المباشرة يتطلب اجتياحًا بريًا واسعًا للبنان، وهي عملية مكلفة ومعقّدة، تحتاج إلى زج كامل للجيش "الإسرائيلي" واستدعاء الاحتياط، فضلًا عن أنها غير مضمونة النتائج، في ظل التجارب السابقة التي انتهت بانسحاب "إسرائيل" تحت ضربات المقاومة. أما سيناريو تكثيف الضربات الجوية دون اجتياح بري فيبقى احتمالًا قائمًا، لكنّه محفوف، بحسب سريوي، بالمخاطر ولا يضمن تحقيق الأهداف "الإسرائيلية"، إذ من غير المرجح أن يبقى الحزب صامتًا في حال تصعيد واسع واستهداف منهجي للمدن والقرى والضاحية، ما قد يؤدي إلى ردود عسكرية تعيد حالة عدم الاستقرار إلى الداخل ال"إسرائيلي"، وخصوصًا في مستوطنات الشمال.
وسط ما تقدم، تبدو "إسرائيل" حاليًّا مرتاحة نسبيًا للوضع القائم، إذ تمتلك حرية حركة شبه مطلقة داخل الأراضي اللبنانية، وتحظى بدعم أميركي كامل، وتستخدم هذا الواقع لممارسة أقصى الضغوط على الدولة اللبنانية لحملها على نزع سلاح حزب الله. ومن هنا، فهي، وفق قراءة سريوي، تسعى إلى الحفاظ على مستوى تصعيد مضبوط يتيح استمرار الضغط السياسي والدبلوماسي على لبنان من دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
وعليه، يمكن القول إن خللا واضحًا تظهر في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار. فبينما التزم لبنان ببنوده، لم تلتزم "إسرائيل" بأي منها. وقد نصّ الاتفاق صراحة على وقف الأعمال العدائية اعتبارًا من الساعة الرابعة فجرًا من يوم 27 نوفمبر 2024، وعلى انسحاب القوات "الإسرائيلية" إلى خلف الخط الأزرق وانتشار الجيش خلال مهلة أقصاها ستون يومًا، وهو ما لم يتحقق حتّى الآن. وحاول لبنان، عبر القنوات الدبلوماسية، إلزام "إسرائيل" بتنفيذ الاتفاق وتطبيق القرار 1701، إلا أن هذه الجهود لم تثمر، في ظل انحياز أميركي واضح لصالح "إسرائيل"، ترافق مع ضغوط مباشرة على الحكومة والجيش اللبنانيين للذهاب نحو نزع سلاح المقاومة تحت وطأة القصف المستمر. بل إن لبنان ذهب أبعد من ذلك حين طرح فكرة التفاوض المباشر مع "إسرائيل"، إلا أن الرد جاء برفض قاطع ومزيد من التهديدات والتصعيد العسكري، ما يعكس اختلالًا فاضحًا في موازين الالتزام بالاتفاقات الدولية. ولذلك، يعتبر سريوي أن الحكومة اللبنانية أخطأت حين حصرت جهودها في مسألة نزع سلاح حزب الله من دون توفير ضمانات حقيقية بوقف الاعتداءات "الإسرائيلية" واحترام السيادة، فمن غير المنطقي ولا القانوني المطالبة بتجريد المقاومة من السلاح في ظل استمرار الاحتلال والخروقات اليومية للأراضي اللبنانية. وقد التزم حزب الله بإخلاء منطقة جنوب الليطاني بالكامل، وانتشر الجيش في تلك المنطقة، ما يفرض على الدولة أن تركز أولًا على مطالبة "إسرائيل" بتنفيذ التزاماتها قبل الانتقال إلى أي نقاش يتعلق بالمرحلة الثانية أو بسلاح الحزب شمال الليطاني.
ولذلك، فإن استمرار الحكومة في سياسة التراجع والرضوخ للمطالب "الإسرائيلية" والأميركية من دون ضمانات سيادية حقيقية قد يفتح، بحسب سريوي، الباب أمام مسار ينتهي باتفاق يكرّس الشروط "الإسرائيلية"، بما فيها تثبيت الاحتلال للنقاط السبع في جنوب لبنان، وهو ما يمكن اعتباره، سياسيًا وعمليًا، تنازلًا عن الحقوق الوطنية تحت ضغط القوّة. وفي ضوء ذلك، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة صياغة إستراتيجية وطنية متماسكة تقوم على تلازم السيادة والحماية والالتزام بالاتفاقات الدولية، من دون التفريط بعناصر القوّة أو القبول بإملاءات خارجية لا تضمن أمن لبنان ولا استقراره.