توفيق خوري/ جريدة الأخبار
استضافة السفير الإسرائيلي على منصة لبنانية تُعدّ محاولة ناعمة لاختراق الوعي وقلب الرواية. الخطاب الهادئ يلمّع صورة الاحتلال ويُعيد توزيع الأدوار بين القاتل والضحية، في عملية أنسنة مقصودة للعدو وتغيير للذاكرة الجماعية تمهيدًا لمرحلة ما بعد التطبيع. أما السلطات المعنية، فتغط في سبات عميق، إن أحسنّا النوايا!
من منصّة إعلامية ولدت في أتون حرب الإسناد، وقد دأبت-ولا تزال- على ضخ الرواية الإسرائيلية اسمها «زمن بيروت» (Beirut Time)، إلى منصةٍ أخرى تفسح المجال لإسرائيل لـ «مخاطبة» اللبنانيين مباشرةً اسمها «هنا بيروت» (This is (Beirut... تبدو العاصمة اللبنانية محاصرةً بالزمان وبالمكان من عدوٍّ عجز عن احتلالها.
• بورنوغرافيا الخيانة
تتبددّ علامات التعجب التي أثارها صمت وزير الإعلام السابق زياد المكاري إبان الحرب ومعه الوزير الحالي بول مرقص بعد «خطاب» (هراء) السفير الإسرائيلي في واشنطن يحيئيل ليتر المبثوثة على منصة «هنا بيروت» التابعة لأنطون الصحناوي. ههنا تنكشف الحقيقة بجلاء: إنّ الإسرائيليّ «يأخذ» في السلم ما لم «يأخذه» في الحرب.
مَن كان يتخيّل أنّ يتكلم سفير صهيوني على الهواء مع اللبنانيين، وبدعوةٍ من لبنانيين، عبر منصة تحمل اسم بيروت؟ كل ذلك يحصل ووزارة الإعلام تغرق في سباتٍ عميق، لكنّ هسيسًا ما يشي بأنّ المسألة تتجاوز الغفلة إلى... شيء من التواطؤ؟ هناك من يجب أن يخضع للمساءلة حتى لا «نحكم على النوايا».
الفيديو المعنون «رسالة سلام إلى اللبنانيين» الذي أعدته حنين غدار مع الصهيوني يحيئيل ليتر هو ما لا يجب أن تشاهده. إنه بورنوغرافيا الخيانة: صفاقةٌ تبلغ حدّ الفحش. اعتداء صارخٌ على الوعي، قاتل أطفال يتكلم عن السلام، «يتواصل» بالحكي لا بالقنابل، هذا اغتصاب للّغة، شالوم!
• الاحتلال الناعم لن يمرّ
من واشنطن، خرج سفير إسرائيل بصورة «الإنسان الرصين الجاد»، وراءه مكتبة متقشفة، وعلى بزّته إشارة التضامن والسلام. يا سلام! معه أيضًا معدّة «مطيعة» مثل «أنكل توم»، أدت «خدمتها» بنجاح؛ انتقت أرشيفًا بصريًا للدمار الذي خلّفته الحرب، وشغلته كلّما تطرّق السفير إلى الحديث عن المقاومة. هكذا انقلبت الحقيقة رأسًا على عقب، وصرنا أمام دعاية كاذبة يُعاد عبرها ترتيب الأدوار: غدا القاتل هو المخلّص، والمقاوم هو المخرب. إنه ولوج قسري إلى الوعي، وانتهاك للذاكرة، وإعادة تشكيل المعاني، ولأنه هنا بيروت حقًا، فهذا الاحتلال الناعم لا يمرّ.
في الشكل: نحن إزاء مشهد مصاغ بعناية. يحيئيل ليتر: وجهٌ هادئ، ملامح ساكنة، ونبرة رقيقة لا يقطعها سوى اندفاعة «ودّية» حين يتحمس ويلوّح بيديه. يتصرّف كأنه الأدرى بمصلحة اللبناني. يقول له ماذا يفعل بأسلوب غير رسمي أقرب إلى «خوش بوش».
يُقدَّم السفير العجوز إذن بصورة «الجدّ الحكيم»، «الطيّب» والمخضرم الذي «يخاطب» حفيده الضالّ. في اللغة: لا يطلّ علينا يحيئيل مهددًا ومطلقًا أوامر «اخلوا منازلكم» بل على العكس، لغته الهادئة تلمّع مبادرته: يمد يد السلام مع اللبنانيين، عدوه هو عدوهم، وإن «مصلحة مشتركة» بينه وبين لبنان يحول أمامها هذا العدو، ولا بد من تجاوزها عبر تحقيق وعد «إبراهيمي» يحقق مستقبلًا خلّابًا يجمع لبنان مع كيانه.
• أنسنة العدو
يحيئيل الذي تحوّل فجأة إلى مايكل على محطة «إل. بي. سي» التي نقلت جزءًا من رسالته- ومايكل قد يكون واحدًا منّا يا برو، فيما يحيئيل سيبقى غريبًا مهما بدا وديعًا ومسالمًا جدًا- هو الجد الخبيث الماكر.
استضافته على منبر «هنا بيروت» مصيدة لغويّة وبصريّة: أنسنة العدوّ وجعله مألوفًا، وتقديم الصهيوني على هيئة رجلٍ عاقل، لطيف، يمنح النصائح ولا يلوّح بالقنابل. استضافته تطرح سؤالًا لا يمكن القفز فوقه: ماذا نال المضيف مقابل هذه ضيافته؟
إنها نقلة نوعية أقدمت عليها «هنا بيروت»... شالوم! طفرة البودكاست والمنصات عائمة ومتفشية مثل جائحة، وقد مرّ أمامنا الكثير من فصول الخيانة على منابر مماثلة، ولكننا لم نشهد خطوة بهذا الحجم ولا بهذا الشكل: استضافة سفير الكيان في واشنطن ليخاطب... اللبنانيين.
الظاهر أنّ أنطون الصحناوي، صاحب «هنا بيروت»، قد حسم موقعه بالفعل، وأعلن انتماءه المطلق كجندي في خدمة كيان قتلة الأطفال.
اعتاد الصحناوي أن يدعو أورتاغوس إلى مطعمه في الجميزة للعشاء بعد أن تنهي تصفيفة شعرها وتخرج من صالون المندلق. قدّم دعمًا ماليًا لأوبرا أميركية إسرائيلية من أموال المودعين، وها هو يريد اليوم أنّ يشكّل بيروت على صورة إسرائيلية تشبهه.
ليس رسم يحيئيل بهيئة «الإنسان الرصين والودود»، تلميع صورته، وإفساح المجال لهذا العجوز الماكر حتى يخاطب اللبنانيين واعدًا إياهم بمستقبل ورديّ، دعوة إلى التطبيع، وطبعًا هذا ليس تطبيعًا كونه تجاوزه؛ إنه ما بعد ــ التطبيع، يعني إسرائيل تتكلم باللبناني.
سفير إسرائيل يطلّ في «هنا بيروت» بضيافة أنطون الصحناوي. هي قصة رجل لبناني تحكي عن رجلٍ «حارب الاحتلال الإيراني» طويلًا، ونجح في تنصيب نفسه كمطواع للاحتلال الإسرائيلي في لبنان.