معتز منصور/ كاتب سياسي
ما جرى بين نديم قطيش وداود الشريان لا يمكن اختزاله في سجال شخصي، ولا في نوبة غضب عابرة على منصة تواصل. نحن أمام لحظة كاشفة لبنية إعلام سياسي عربي تشكل، خلال العقد الأخير، على أساس الوظيفة لا الفكرة، وعلى أساس التموضع لا الموقف، وعلى أساس ادعاء تمثيل الوعي العام بدل خدمته. هنا تحديدًا؛ يقع جوهر القصة، وهنا يصبح التحليل ضرورة لا ترفًا؛ لأن ما انكشف يتجاوز الأشخاص ليطال المنظومة التي صنعتهم وروجت لهم ومنحتهم مساحة أكبر من حجمهم الحقيقي، ومساحة خفية للتطبيع والتسويق لحقائق غير قابلة للنقد.
لفهم هذا السقوط؛ لا بد من العودة الى البدايات، لا بوصفها حكاية شخصية، بل مسارً دالًا. بدايات نديم قطيش لم تكن خارج السياق السياسي اللبناني، بل داخله تمامًا، وتحديدًا في الفلك الإعلامي المرتبط بتيار رفيق الحريري. هناك تشكل وعيه الأول، وهناك تعلم أن الإعلام ليس مساحة أسئلة بقدر ما هو أداة اصطفاف، والخطاب يبنى لخدمة مشروع لا لمساءلته. لكن لحظة أفول الحريرية السياسية بعد العام 2005، وما تبعها من تراجع النفوذ والتمويل والحضور، دفعت كثيرين، وقطيش منهم، إلى القفز من المركب قبل غرقه الكامل.
هذا القفز لم يكن انتقالاً مهنيًا بريئًا، هو إعادة تموضع محسوبة. انتقل قطيش من إعلام لبناني مسيّس إلى إعلام إقليمي ممول، حيث الشروط مختلفة والسقف أعلى. لكن الهامش أضيق. في الفضاء الإعلامي السعودي؛ وجد المنصة والانتشار والموارد، لكنه وجد أيضًا وظيفة أكثر وضوحًا: خطاب مرسوم، أعداء محددون، ومحرمات لا تمس. هنا صقل أسلوبه الهجومي، وارتفعت نبرته، وتكرست صورته مذيعًا صداميًا، لا لأنه أكثر جرأة، بل لأنه يعمل داخل منظومة تحمي هذا الصدام طالمًا بقي في الاتجاه المطلوب.
ذروة هذا المسار كانت مع وصوله إلى موقع متقدم في "سكاي نيوز عربية". المنصب لم يكن تتويجًا لكفاءة مهنية فقط، أيضًا هو مكافأة على التزام وظيفي طويل، لاسيما على استعداده لتأدية دور الوسيط في مسار التطبيع الإعلامي مع الكيان الإسرائيلي. مسار لم يكن مجرد خطاب نظري بالنسبة إليه، هو مشروع شخصي يرى نفسه قادرًا على تغطيته وتقديمه لجمهوره على أنه "واقعية سياسية". ظن قطيش أن المنصة تمنحه قدرة غير محدودة على إعادة صياغة الصورة العربية للاحتلال الإسرائيلي، ومخاطره محدودة طالما أنه يعمل داخل منظومة إقليمية تميل نحو التطبيع الهادئ والممنهج.
قطيش لم يظهر فجأة صوتًا صداميًا، هو تدرج داخل منظومة إعلامية إقليمية ترى في الإعلام أداة إدارة للصراع لا ساحة تفكير فيه. لغته وأسلوبه واختياره للخصوم، وحتى سخريته المعلبة، كلها عناصر تنتمي إلى مدرسة واحدة. مدرسة تفترض أن الجمهور كتلة قابلة للتوجيه عبر الاستفزاز، وأن الخطاب العالي النبرة يعوض غياب العمق. هذه المدرسة ازدهرت مع صعود القنوات العابرة للحدود التي اتخذت من العواصم الخليجية مقرًا، ومن الملفات الإقليمية وقودًا يوميًا، ومن فكرة العدو الثابت مادة استهلاكية، تعاد صياغتها بحسب الحاجة السياسية لا بحسب الوقائع، وفي بعض الحالات لتسويغ تقارب أو تطبيع مع الاحتلال.
في هذا السياق تحديدًا؛ جاء مشروع قطيش الإعلامي. هو لم يكن مجرد مقدم برامج، إنما حامل خطاب، يخلط بين النقد السياسي والتحريض الرمزي، وبين مساءلة الخصوم وتجريدهم أخلاقيًا. هذه الخلطة نجحت في زمن الفوضى الإقليمية، حين كانت الاصطفافات حادة، والأسئلة الكبرى مؤجلة، والجمهور متعطشًا لأي يقين ولو كان زائفًا. لكن الإشكال يبدأ عندما يتحول هذا الأسلوب إلى هوية ثابتة، وعندما يصدق صاحبه أنه بات فوق المحاسبة، وفوق السياق، وفوق التوازنات التي أوصلته ومنحته المنصة والشرعية، ويصبح مهووسًا بتغطية مشروعات تطبيعية مغلفة بــ"الواقعية السياسية"، وهذا ما كشفه اصطدامه بــ"الشريان".
المنشور الذي كتبه داوود الشريان؛ وإن كان رد فعل غاضب؛ لكن من يعرفه يدرك أنه ليس هاويًا للمعارك المجانية. هو ابن مؤسسة سعودية تقليدية تفهم السلطة والنفوذ والإعلام على أنها مسارات متداخلة لا ساحات استعراض. نقده كان موجها ومركزا، لا على شخص قطيش وحسب، أيضًا على نمط إعلامي كامل يرى نفسه وصيًا على الوعي العربي، بينما يعيد إنتاج خطاب التطبيع المغلف بلغة عقلانية. هنا، أخطأ قطيش القراءة، حين اعتقد أنه يواجه إعلاميًا من طراز تويتر، بينما كان في الواقع يصطدم بسقف سياسي وإعلامي أعلى منه بكثير، ولم يعد يستطيع تغطية مشروع التطبيع كما تصور، لقد انكشفت محدودية سلطته في توجيه السردية.
رد قطيش الساخر لم يكن شجاعة، هو دليل على عمى استراتيجي. السخرية سلاح فعال؛ عندما تكون في موقع قوة، لكنها تتحول إلى انتحار مهني عندما تستخدم ضد منظومة قادرة على إخراجك من اللعبة بهدوء ومن دون ضجيج. هذا ما حصل. لم نشهد معركة علنية، ولا قرارًا معلنًا باسباب واضحة، إنما سلسلة إشارات انتهت بخروج قطيش من رئاسة مجلس إدارة سكاي نيوز عربية بعد عام واحد فقط. عام واحد كان كافيًا ليكشف أن حضوره الإعلامي لا يساوي وزنًا سياسيًا، والصوت العالي لا يصنع حصانة، وأن أي محاولة لتغطية مشاريع التطبيع لا يمكن أن تتم إلا ضمن حدود محددة، لا تتجاوزها إلا بدفع ثمن فوري.
اللافت في المشهد صمت عماد الدين أديب، عدم حياديته، هو قراءة دقيقة للمشهد. أديب يدرك أن المعارك الإعلامية ليست كلها متكافئة، وبعض الاشتباكات تخاض بالانسحاب لا بالرد. صمته كان رسالة ضمنية، ليس لقطيش وحده، أيضًا لكل من يظن أن المنصات تحمي أصحابها مهما تجاوزوًا حدود الدور والوظيفة، وخاصة عند محاولة تمرير مشاريع تطبيعية تتطلب حذرًا أكثر من الجرأة.

الاستقصاء يقودنا إلى ما هو أبعد من الأشخاص. نحن لأمام تحولات عميقة في وظيفة الإعلام العربي. لم يعد مطلوبًا من بعض الوجوه أن تقنع، بل أن تمهد.. لا أن تطرح الأسئلة، بل لأن تفرغها من مضمونها. التطبيع، هنا، لا يقدم على أنه شعار فج، هو مسار بارد وعقلاني، لا بديلًا عنه بحسب الخطاب السائد. من يرفض يوضع في خانة الرومانسية أو الشعبوية أو العجز عن فهم الواقع. قطيش كان جزءًا من هذا المسار، لكنه أخطأ حين ظن أن التماهي الكامل معه يمنحه حصانة مطلقة ودائمة، وظن أنه قادر على تغطيته من منصته، بينما انكشفت حدود المنصة ووزنه الحقيقي أمام إعلام أكثر خبرة وأكثر نفوذًا.
ما سقطأ في هذه القصةأ ليس شخصًا فقط، بل وهم كامل. وهم أن الإعلامي يمكنه أن يتحول إلى فاعل سياسي مستقل داخل منظومة شديدة الانضباط. وهم أن السخرية تُغني عن الفهم.. وهم أن المنصة تصنع الحقيقة لا العكس. وربما الأهم، وهم أن الجمهور لا يلاحظ ولا يراكم ولا يحاسب. الجمهور قد يصمت، لكنه لا ينسى، وعندما تسقط اأقنعة يسقط معها كثير من الأصوات التي ظنت نفسها خالدة.
سقوط قطيش يطرح درسًا أعمق من شخصه.. يكشف نموذج الإعلام العربي بعد العام 2011: الإعلام لم يعد مجرد نقل للخبر، هو أداة للتطبيع وصناعة وقائع جديدة لتسويغ تحولات سياسية استراتيجية، ولخلق سرديات محسوبة، وغالبًا على حساب الوعي الحقيقي للجمهور. إعادة تموضع الوجوه الإعلامية داخل هذه المنظومة لا تعني حريتهم، بل التزامهم بمسار محدد مسبقًا، ومسار التطبيع جزء منه، سوًاء بشكل مباشر أم مغلفًا بلغة "الواقعية السياسية".. أي محاولة لتجاوز الحدود أو لتفسير التطبيع بحرية فكرية تعرّض صاحبها للخسارة السريعة.
سقوط قطيش ليس فقط عنفوان شخصي، هو درس استراتيجي: الإعلامي العربي الذي يحاول تغطية التطبيع كما يتصور، من دون فهم قواعد اللعبة، سيصطدم عاجلًا أم آجلا بجدار الواقع، وسيكتشف أن المنصة ليست ملكًا له، وأن الجمهور ليس كله جاهلًا، وأن أي وهم بالحصانة مؤقت ومخادع.
هذه الواقعة هي تحذير لكل من يظن أن الصوت العالي والشجاعة في الهجاء كافيان لتغطية مشاريع سياسية حساسة، وأن الطريق نحو التأثير في الخطاب العربي لا يمكن اختزاله بالاستهزاء أو بالادعاء، إنما يمر عبر فهم دقيق للوظائف الحقيقية للمنصة وللطبقات الخفية للسلطة ولحدود الجمهور.
قطيش اختار الطريق الأسهل، لكنه دفع ثمن وهمه، وعلم لأن التطبيع لا يغطيه مجرد موقف إعلامي، بل يحتاج إلى منظومة كاملة، وتجاوز هذا الفهم مكلف جدًا.