اوراق مختارة

قانون الفجوة المالية... حلٌّ مُرٌّ أم كأسٌ مسموم؟

post-img

جاسم عجاقة (صحيفة الديار)

بعد سنوات من الشلّل السياسي، تُقرّ الحكومة اليوم (أو الثلاثاء على أبعد حدّ) مشروع قانون «الانتظام المالي واسترداد الودائع» على أن تُحيله الى المجلس النيابي بهدف إقراره. هذا القانون هو واحد من القوانين المفروض على لبنان إقرارها قبل توقيع أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي بدروه يُشكّل مدخلًا لأي مساعدات مالية خارجية.

مشروع القانون بصيغته الرسمية يحمل تغييرًا جذريًا في المشهد الاقتصادي اللبناني وفي اقتصاده الحرّ. وإذا كان إقرار القانون هو أمرا ضروريا للخروج من الأزمة، إلا أن صيغته الحالية غير عادلة ولا تحمل في طياتها أي معالجة لأسباب الأزمة ولا محاسبة المرتكبين.

استراتيجية الحكومة

يُصوّر مؤيدو القانون هذا الإجراء على أنه ضروري، وإن كان مؤلمًا، لوقف عقود من الركود الاقتصادي. يتمثل الهدف الاستراتيجي الرئيسي في سدّ الفجوة المالية التي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار، والتي أدت إلى شلل القطاع المصرفي، وشللّ الاقتصاد، وعزل لبنان عن النظام المالي العالمي. ومن المتوقع أن يوفّر هذا القانون في حال إقراره، من خلال الاعتراف الرسمي بهذه الخسائر وتخصيصها، منصةً تُتيح للنظام الاقتصادي التعافي بشكل جذري.

وبحسب الحكومة تُعدّ الآثار الإيجابية للقانون في الاقتصاد اللبناني كبيرة، وهي تُشكّل الأساس الرئيسي لإقراره. فالقانون يُعدّ شرطًا أساسيًا لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي وهو من شأته أن يوفر 3 مليارات دولار من القروض المباشرة، بالإضافة إلى الثقة اللازمة للاستفادة من حوالى 11 مليار دولار من التمويل الدولي لإعادة الإعمار بعد حرب 2024. وترى الحكومة أن عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي توفر الإطار القانوني اللازم لتصحيح المعاملات غير القانونية، وإجراء مراجعة شاملة لجودة أصول الميزانيات العمومية للمصارف، ووضع خطة واضحة. أضف إلى ذلك، فإن إصلاح القطاع المصرفي سيؤدّي إلى الحد من الاقتصاد النقدي.

ولعل أهم نقطة من وجهة نظر الحكومة سد الفجوة المالية، إذ يُنهي القانون حالة عدم اليقين بشأن الودائع ويُقر القانون رسميًا بالعجز المالي الهائل. ومع ذلك، فإن هذه الخطة على مستوى الدولة تُحمّل المواطنين خسائر مؤكدة.

الثروة الخاصة لإنقاذ الدولة

إن تكلفة إضفاء الطابع المؤسسي على الخسائر المالية الضخمة والمؤكدة طويلة الأجل التي يتحملها الشعب هي التكلفة المباشرة لشراء الاستقرار النظامي من خلال القانون. هذا القانون هو تدمير ممنهج لثروات الطبقة المتوسطة، ونقل المعاناة المالية للشعب إلى معاناة طويلة الأمد ومؤكدة، ونقل فعلي لفشل الدولة إلى القطاع الخاص.

الآثار الاجتماعية السلبية المباشرة في الشعب اللبناني وخيمة، وتؤثر في مختلف فئات المجتمع بشكل متفاوت:

صغار المودعين: خطة إعادة تأهيل المودعين الذين تقل ودائعهم عن 100 ألف دولار، والذين يشكلون 85% من إجمالي المودعين، تُعاقَل بسبب المدة الزمنية الطويلة، إذ تعتمد الخطة على سداد مستحقاتهم على مدى أربع سنوات، وهي في جوهرها تجميد للسيولة على المدى الطويل. هذا يُضعف القوة الشرائية الفعلية لأموالهم، ويعرّض الأسر لصدمات مالية في المدى القصير، ويزيد من تداعيات التضخم في المدى الطويل. الجدير ذكره أن العديد من المودعين قام بتحويل حساباته أو جزء منها من الليرة إلى الدولار الأميركي لحماية مُدخراته، وها هي عملية شطب التحاويل تأتي لتزيد من المأساة. كذلك الأمر بالنسبة للعديد من الموظفين في القطاع المصرفي الذين تمّ إنهاء خدماتهم (حوالى 13 ألفا) مقابل تحويل تعويضاتهم إلى الدولار الأميركي مع تجميد على فترة سنة.

فخ الشهادات: ينص القانون بشكل صريح على خصم غير مباشر من ودائع كل من تتجاوز ودائعهم 100,000 دولار. فالأموال الزائدة تُحوَّل إجباريًّا إلى سندات في صندوق مالي مدعوم بأصول (ABS) أو سندات بفوائد بمعدل 2% وهي نسبة تأكل من رأس المال نظرًا إلى التضخمّ الكبير في الاقتصاد اللبناني وهو ما يعني هيركت إضافيا على الودائع، وقد كان الأجدى اعتماد فوائد تعتمد مؤشّر التضخّم. باختصار، يُمنح المودِعون <شهادات قابلة للتداول>، تعتمد قيمتها على مستقبل غير مضمون وعلى تضخّم غير مسيطر عليه مع عائد ضعيف جدًا، وبالتالي فإن عملية الخصم لإجراء التداول ستؤدّي إلى أكل رأس المال. هذا يعرّض الطبقة المتوسطة المهنية لمخاطر سوقية جسيمة، إذ تصبح مدخراتهم التقاعدية والتعليمية عرضة لتقلبات سوقية قد تُلزمهم بيع أصولهم بخسائر فادحة.

تجميع الحسابات: إن اعتبار المودع الذي يمتلك عدّة حسابات في عدة مصارف على أنها حساب واحد هو شكل من أشكال الهيركت، وبالتالي هذا الأمر يطرح عدّة مشاكل قانونية، منها المؤونات على الحسابات المُنفردة والتي تتعارض وهذا القانون. كما يُطرح السؤال عن جدوى فتح حسابات مصرفية في المستقبل في عدة مصارف نظرًا إلى أن القانون المُقترح يتعامل معها على أنها حساب واحد. وهذا ينسحب أيضًا على قانون ضمان الودائع، فهل هيئة ضمان الودائع تتعامل مع هذه الحسابات على أنها حساب موحّد؟

غرامات باهظة: يفرض القانون غرامة استثنائية بنسبة 30% على المعاملات المالية التي تصنَّف على أنها <غير طبيعية> منذ عام 2019، مثل استخدام الأفراد لأصولهم لسداد قروضهم بالسعر الرسمي السابق. هذا الإجراء يُعدّ عقوبةً بأثر رجعي، ما يُهدّد مبدأ اليقين القانوني، ويستنزف مدخرات أفراد تصرّفوا وفق القواعد النافذة في حينه.

استردادات مستهدَفة ولكنها غير فعّالة: استنادًا إلى مبدأ المسؤولية، يُلزم القانون باسترداد الأموال التي حُوّلت إلى الخارج من قِبل الشخصيات السياسية البارزة وكبار المساهمين منذ تشرين الأول 2019، مع فتح باب الملاحقة القضائية في حالات التهرب الضريبي. كما يخضع للتدقيق الحسابات ذات المصادر غير الواضحة أو تلك التي استفادت من <الهندسة المالية> التي مارسها مصرف لبنان. ورغم أن هذه الأحكام تحظى بشعبية سياسية، فإن فعاليتها تبقى محل شك كبير على أرض الواقع.

بالخلاصة إن <خصخصة خسائر> القطاع المالي هذه ليست مجرد مأساة اجتماعية، بل تمثّل بذرة لتدهور هيكلي، وأكثر جوهرية، في الاقتصاد اللبناني.

اقتصاد مستقر أم مُنهك

تكمن المعضلة الاقتصادية الكلية الحاسمة في التشريع في أنه قد ينجح في استقرار النظام المالي على حساب زعزعة استقرار الاقتصاد الإنتاجي. ويكمن جوهر هذه المعضلة فيما يُعرف بـ <الإنقاذ الداخلي»، الذي يقضي، إضافة إلى أموال المودعين، على حقوق المساهمين الحاليين في المصارف لتغطية جزء من العجز المالي. ورغم أنه أداة معتادة في إعادة هيكلة الديون السيادية، إلا أنه في حالة لبنان، قد يُشكل رادعًا دائمًا للاستثمارات المحلية والأجنبية المستقبلية في البلاد، إذ يُظهر قدرة الدولة، في أوقات الأزمات، على شطب ديونها قانونيًا، وكأنها تُزيل كل شيء بالقوة.

التداعيات على أصحاب المصلحة (stakeholders) هي على الشكل الآتي:

المودعون الصغار: ضمان استرداد كامل المبلغ حتى 100 ألف دولار أمريكي على مدى 4 سنوات، وهو ما لا يحفز السيولة.

المودعون الكبار: تحويل جزئي للنقد (100 ألف دولار) والباقي رهينة قيمة أصول الدولة.

إعادة هيكلة المصارف: خسارة إلزامية لحقوق المساهمين لتغطية الفجوة المالية، مما يردع الاستثمار المستقبلي.

رهن أصول الدولة: أصول الدولة مرتبطة بصندوق استرداد الودائع، مما يُعرّضها لخطر البيع بأسعار زهيدة.

إن هذه التناقضات الصارخة في القانون تجعله أحد أكثر المقترحات إثارة للجدل في تاريخ لبنان الحديث.

هل هو حلٌّ مُرٌّ أم كأسٌ مسموم؟

تتجلى الأزمة المؤلمة التي يمر بها لبنان في قانون إصلاح القطاع المالي واسترداد الودائع. فبالنسبة لمؤيديه، هو حلٌّ مُرٌّ ولكنه ضروري، الدواء الوحيد الممكن للتخلص من الداء الاقتصادي المُزمن، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي المنهار، والعودة إلى الساحة الدولية. أما بالنسبة للمنتقدين، فهو كأسٌ مسموم. إذ يُخلّف جواً من عدم اليقين القانوني والمخاطر الأخلاقية من خلال فرض عقوبات بأثر رجعي، ويُدمّر ثروات الطبقة المتوسطة، ويقضي على الاستثمار في المستقبل لأنه يُظهر إمكان إلغاء ملكية المساهمين بقانون بسيط من البرلمان. في النهاية، يُلحق القانون هزيمة نكراء بالبعض، ويُعيدهم إلى النظام نفسه. والنقاش الدائم ليس حول ما إذا كان هذا المسار هو السبيل الأمثل لتحقيق انتعاش اقتصادي مُستدام، بل حول ما إذا كان العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة سيصمد أمام مثل هذا الإجراء.

عند سقوط جميع هذه الأسباب الاقتصادية، يظهر جليًا أن السبب الأساسي لهذا المشروع ليس الانتظام المالي بقدر ما هو الإبراء المالي المستحيل ودك إسفين في نعش التدقيق الجنائي.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد