أوراق ثقافية

«متحف الهولوكوست» مهلّلًا لإبادة غزة

post-img

بول مخلوف/ جريدة الأخبار

يتفشّى خطاب «الإبادة» كجائحةٍ هوجاء في عالم أضحى أشبه بمدينة ديستوبية موبوءة لا يقطنها سوى المومياء ولا يحكمها سوى المجرمين القتلة. غالبًا ما يحوم الوباء في مقالات قسم رأي عند الجرائد التابعة لإعلام يشتغل «كلب حراسة» بتعبير بول نيزان، للمنظومة الصهيونية القائمة على تصريف أعمال هذه المدينة الديستوبية.

العدوى هذه المرّة منبعها مارتن أولينر، صحافيّ وأحد أعضاء مجلس أمناء «متحف الهولوكوست» (في أميركا)، الذي دعا بوقاحةٍ قلّ نظيرها إلى معاقبة جميع الفلسطينيين والتعامل معهم بوصفهم مذنبين بالكامل، فهم «لا يستحقّون أي رحمة».

في مقالة بعنوان «اسمحوا لترامب أن يجعل من غزة عظيمة مجددًا» نُشر في صحيفة «جيروزلم بوست»، كتب مارتن أولينر مقالًا مسعورًا ينضح بإيديولوجيا تنظر إلى الفلسطينيين على أنّهم «حيوانات بشريّة»، مكررًا للمرّة المليون، السردية المضلِّلة نفسها، تلك الزاعمة بأنّ الغزّيين أمعنوا في «القتل والاغتصاب»، مطالبًا بترويضهم، أو بالأحرى «اجتثاث همجيّتهم»، قبل البدء بإعادة إعمار غزة.

وصفة نازية

في لمحةٍ سريعة، مارتن ألينر هو رئيس مجلس الدراسات الصهيونية في أميركا، ورئيس معهد «ثقافة السلام». هو أيضًا عضو في الجمعية اليهودية وقد عيّنه دونالد ترامب أخيرًا كأحد الأمناء في «متحف الهولوكوست» فرع واشنطن. والظاهر أنّ علاقةً وطيدةً تربط أولينر بدونالد ترامب، لن يزعزعها امتعاض أولينر من خطّة ترامب في إعادة إعمار غزّة. إنّها مدينةٌ رائعةٌ وتطلّ على البحر، والرئيس يفكّر في تحويلها من قبرٍ مفتوحٍ إلى مدينةٍ ساحرةٍ تشبه ميامي.

أولينر لا يبدو سعيدًا في ما يخص عودة غزة كمدينةٍ مأهولة لكنه مرغمٌ على تقبل الأمر في نهاية المطاف. وعلى طريقة «كلاب الحراسة»، سيزوّد صديقه «البولدوزير» كما يصفه بنصائح خبلاء، مثل ضرب منشآت إيران النووية «لإضعاف حركة حماس»، وتأديب الفلسطينيين، الغزيين على وجه التحديد لكي لا يشكّلوا تهديدًا على أمن إسرائيل، كما سيقترح ترحيلهم ولو «مرحليًا» قبل البدء بإعادة الإعمار وأفكارًا ساخنة أخرى تشحن حرارة الحرب، تروم استئناف الحرب واستكمال الإبادة.

من غير المجدي تفكيك حجج أولينر في أي حال، لعلّ مقارعة صهيونيّ خيانة للمنطق وللغة، وأشبه بالغرق في مستنقعٍ شديد اللزوجة يغدو الخروج منه عقيمًا. غير أنّ مارتن أولينر يشغل منصب «الأمانة» في متحفٍ يعرِّف عن نفسه بأنه: «ذاكرة حيّة للهولوكوست... ومصدرُ إلهام للمواطنين والقادة في جميع أنحاء العالم لمواجهة الكراهية، ومنع الإبادة الجماعية، وتعزيز الكرامة الإنسانية».

يبدو أنّ أولينر ينكث بإرثٍ يدّعي أنه مؤتمنٌ عليه. هو لم يتعلّم من (متحف) الهولوكوست شيئًا، والظاهر أنّ «المشهد» الهولوكوستيّ يثيره بطريقةٍ معيّنة. الحال، إنّه مشاركٌ في صناعة الإبادة وإنّ يديه قذرتان بحاضرٍ تعوم فيه فظاعةٌ مماثلةٌ لذلك التراث الذي يشرف عليه. ففي حين يريد من المتحف الهولوكوستيّ أنْ يُلهم «العالم» بإنسانيةٍ ساميةٍ، فإنه يمارس ما يمكن تعريفه بالهولوكوست معكوسًا. الوصفة النازية خالصة عنده. هو يتحدّث بلسان هتلر، هناك «ماهيّات» للشعوب: «الفلسطينيّون أشرار» يقول، الفلسطيني شرير بجوهره إذًا، ويجب على «المتحضِّر» «اجتثاث» الهمجيّة الثاوية في الفلسطينيّ قبل أن يحوَّل له مدينته الخربة إلى ميامي.

مكيافيلّي ينصح «الأمير»

عصر الهولوكوست هو عصرُ الحداثة المشوَّهة التي انبثق منها، من ضمن ما انبثق، الخوفُ والارتعاد والتهوّر باعتباره نقيضًا للمسؤولية، وهي إرهاصاتٌ لما سيندرج لاحقًا في الفكر العبثي. بيد أنّنا (كما نقول دائمًا) نعيش في عصر الإبادة؛ هذا العصر الذي ينجم عنه، كما نرى، الشيزوفرينيا والفصام (عنوان أهم مؤلف لجيل دولوز وفيليكس غاتاري)، فالمؤسسات الإعلامية الليبرالية التي تتحدّث عن سلطة المحرِّر وضرورة انتقائه للمفردة «المحايدة»، وتزوِّدنا بقائمة معايير «إنسانيّة»، تقع سريعًا في حُبّ القتلة المجرمين أمثال مارتن أولينر وتفتح لهم صفحات جرائدها.

أحد القيِّمين على متحفٍ يريدنا تذكر الجلد المحروق، والجماجم المطحونة، في مساحاتٍ ضيقة تحاكي لنا غرف الجحيم والغاز، بيد أنّه يتمنى لو يخرج هذا المتحف عن طوره: ألّا يبقى جامدًا ومأسورًا داخل الأبواب، بل أن يتجسد في الخارج وأن تعود له الحركة... إنّه يدعو إلى جعل غزة متحفًا مفتوحًا لهولوكوست دائم. أهلًا بكم، بنا، في عالم شيزوفرينيا والفصام، تعرّفوا إلى حارس البوّابة هنا، اسمه مارتن أولينر.

على أنّه يتعذّر توصيف ما جرى في غزّة بالهولوكوست. ذاك أنّ إسرائيل و«العقل الأبيض» جعلوا الهولوكوست مأساةً «يهوديّةً» تقتصر على اليهود فحسب. باقي ضحاياها مجرّد غبار تبخّر مع الريح. الكلام عن هذه المسألة يطول ولن يجد مساحته الكافية هنا. لقد أحاطت الصهيونية بالهولوكوست وحوّلتها إلى حدثٍ سياسيٍّ يجترّ منه الصهيوني سياسته. العبارة الواردة في التعريف أعلاه: «ذاكرة حيّة للهولوكوست» تعدو احتيالًا. إنّها تعني إدامة «المأساة» وجعل مفعولها (المأساة) جاريًا.

لكنّها مأساة الآخرين، فمن كان ضحيّةً في السابق يُستعمل اليوم كوقودٍ حتّى ينتهكَ غيره وليجعل منه ضحية، وها نحن مع مارتن أولينر القيّم على ذاكرة تنطوي على جرحٍ عتيق وشاهدة على قتل وحشيٍّ حصل في الماضي، أمام وعي يجيز إماتةَ الآخرين في زمن الحاضر. إسرائيل هولوكوست مستمرٌّ مثل مرضٍ مزمن.

شيءٌ من الجفول يعترينا عند الانتهاء من قراءة مقالة مارتن أولينر لأنّنا نرى أنفسنا أمام خطرين داهمين. هذه المرّة، إنّ خطاب الإبادة «مُشرعَنٌ»، ليس لأنّ شرعيته مستمدّة من الوسيط الإعلامي فقط، أي من جريدة «جيروزلم بوست»، فعدد من وسائل الإعلام التابعة للمنظومة الصهيونية دأبت على الترويج للإبادة وحرضت عليها؛ إنّما لأن مكانة الكاتب تشبهُ دور ميكافيلّي في تقديم النصائح «للأمير»، إنّه يزوِّد دونالد ترامب، «سوبرمان» العالم، باللازم. ثمّ، نحن أمام «مأسَسةٍ» للإبادة.

وجود مارتن أولينر في مجلس أمناء «متحف الهولوكوست» يجعلنا نستحضر كلّ الأسئلة المتعلِّقة بسلطة المتاحف، تلك الأسئلة التي طُرِحت بلهجةٍ شديدةٍ حول دور المتاحف ووظائفها وأثرها الثقافي والاجتماعي والجمالي التي لا تزال تطرح حتى الآن.

من شأن المتحف، وهو الذاكرة المتجسدة في «مكانٍ»، أن يخلِّد ذِكرى لها طابعٌ استثنائيٌّ بُغية منع المرء من النسيان، حتى تكون سرديّة هذه الذكرى بمنزلة درسٍ أخلاقيٍّ نستمدّها عبر التذكّر لكي نتعلّمَ أخطاء التاريخ. غير أنّ رعاية أشخاصٍ مثل مارتن أولينر لـ «متحف الهولوكوست» لهو تأكيدٌ أنّنا أمام مصنعٍ إيديولوجيٍّ يتوق إلحاق الآخر بالضرر الذي يكتوي عليه. لا يبحث المتحف عن قرائن أو أغراض ليعرضها أكثر ما يبحث عن زوّار، فإذا كان ثمّة من هدفٍ للمتحف فهو الفرجة. أليس ما حدث في غزّة، من كراهية، وإبادةٍ جماعيّةٍ وإهانةٍ للإنسانية، وإبادة ارتكبتها «سلالةُ» مارتن أولينر الثقافية، متحفًا، بل متحفًا واقعيًا؟

ليس المطلوب زيارة غزّة للتفرّج، مجرّد النظر إلى هذه المدينة يعني إعادة النظر في إنسانيتنا. مارتن أولينر يتيح لنا بشكلٍ ما، الدخول إلى مناطق «إسرائيلية» حسّاسة قد تفجّر أوضاعًا نحن بحاجةٍ إلى انفجارها.

إذا كان من غير الجائز طرح أسئلة حول الهولوكوست، والاكتفاء بالتعاطي معها بالتقديس المفروض علينا، فليبدأ السؤال إذًا عن التمثيل الذي أخذته الهولوكوست، أي عن متاحفها وحول القيّمين عليها، وتحطيم كلّ هذا بالنقد؛ ماذا نفعل بقاتلٍ يُشرِف على متحفٍ شهد على القتل ويشكّل نصبًا تذكاريًّا لمنع عودة القتل؟ ما حاجتنا اليوم إلى متحفٍ يعيد تذكيرنا بفاجعةٍ حصلت في الوقت الذي تتكرّر فيه هذه الفاجعة كل يوم؟ ماذا لو أفاق الضحايا الذين يتذكرهم هذا المتحف من الموت، ورأوا الجرائم التي ارتُكبت، ولا تزال، تُرتكب باسمهم؟ المتحف الحقيقيّ لم يعد في عواصم الغرب، صار في البلدان التي تبيدها الأنظمة الغربيّة كلَّ يوم.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد