فادي الحاج حسن / كاتب لبناني
في خضمّ التصعيد الإقليمي المتسارع، جاء الردّ الإيرانية الأخيرة ردًا محسوبًا على الاعتداء الإسرائيلي الذي استهدف منشآت نووية وعسكرية داخل العمق الإيراني. ومع الجدل الدولي الواسع، أكّدت طهران في هذا الرد أنها لن تسمح مجددًا بأن تمرّ الاعتداءات من دون ثمن، وأن أمنها القومي ليس ورقة تفاوض، بل هو خطٌ أحمر، ستدافع عنه بالوسائل المتاحة كلها.
منذ عقود، تعتمد "إسرائيل" سياسة الضربات الاستباقية خارج حدودها، في انتهاك صريح للقوانين الدولية ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، خصوصًا المادة 2 التي تحظر استخدام القوة ضد وحدة أراضي أي دولة مستقلة. وقد مارست "تل أبيب" هذه السياسة في سوريا ولبنان والعراق، ثم نقلتها إلى الداخل الإيراني عبر اغتيالات وهجمات سيبرانية وضربات جوية مركّزة. أمام هذه الاعتداءات المتكرّرة، التزمت إيران ضبط النفس لمدة طويلة، سعيًا منها لتفادي التصعيد، لكنها هذه المرة ردّت.
أبعاد الرد الإيراني بين الحسابات العسكرية والرسائل السياسية
لا يمكن عدّ الردّ الإيراني ردًا عبثيًا أو غير مدروس. الضربات التي نُفّذت، بالصواريخ والطائرات المسيّرة هدفت إلى توجيه رسالة واضحة مفادها أن إيران لن تبقى صامتة إلى ما لا نهاية، وأن المساس بأمنها القومي ستكون له تبعات مباشرة. وما يُحسب لطهران، في هذا السياق، هو أن الرد لم يستهدف المدنيين وحسب، أيضًا ركّز على مواقع عسكرية وأمنية، ضمن قواعد الاشتباك التي ما تزال على الرغم من كل شيء، تحت سقف الردع المتبادل وليس الحرب الشاملة. هذا التوازن الصعب يعكس تطورًا كبيرًا في طريقة إدارة الصراع، وتقديرًا دقيقًا لمستوى التصعيد الذي يمكن احتواؤه سياسيًا.
منطق الدفاع المشروع في القانون الدولي
وفقًا للمادة 51، من ميثاق الأمم المتحدة، يحق لكل دولة عضو الدفاع عن النفس، إذا تعرضت لعدوان مسلح. هذه المادة لا تُقيّد الرد بمدة زمنية أو بنوع معين من الرد، هي تعترف بشرعية أي تدبير دفاعي تتخذه الدولة المعتدى عليها. وفي حال إيران، فإن الهجوم الإسرائيلي الذي تمّ بطائرات متقدمة استهدفت منشآت داخل أصفهان، يُعد عدوانًا صريحًا يبيح لإيران الرد.
في هذا السياق؛ لم يكن الرد الإيراني خارجًا عن المألوف؛ لقد جاء متناسبًا مع طبيعة التهديد، وأقلّ مما يمكن أن تقوم به دول أخرى في موقع مماثل؛ فلو تعرّضت منشآت عسكرية داخل فرنسا أو ألمانيا لهجوم مشابه، لأعلنت هذه الدول الحرب فورًا.. فلماذا يُطالَب الإيرانيون بضبط النفس في مواجهة انتهاك سيادتهم، بينما تُسوّغ أفعال "إسرائيل" بذريعة الدفاع الوقائي؟ إنها الازدواجية المقيتة التي تُصيب جوهر العدالة الدولية في مقتل.
التحوّلات في ميزان الردع الإقليمي
لعلّ أبرز ما كشفه الرد الإيراني هو تغيّر ميزان الردع في منطقة شرق آسيا (الشرق الأوسط). إذ إن إيران، اليوم، لم تعد تلك الدولة المعزولة التي يمكن ضربها من دون توقع الرد. إنها دولة تملك شبكة تحالفات إقليمية، وقوة صاروخية متقدمة، وقدرات إلكترونية متطورة. والأهم من ذلك، أثبتت قدرتها على الرد المباشر من أراضيها، من دون الاعتماد على حلفائها. لقد اختارت طهران أن تتقدّم إلى الواجهة، لتقول للعالم: "لسنا بحاجة إلى وكلاء، وسنرد بأنفسنا عندما تُستهدف أرضنا". هذا التغيير النوعي في المعادلة لا يعني بالضرورة اندلاع حرب كبرى، إنما يهدف إلى تثبيت معادلة ردع جديدة تمنع "إسرائيل" من التصرف على أنها قوة فوق القانون.
الدور الغربي... صمت مريب وتواطؤ مكشوف
من اللافت أن أغلب العواصم الغربية لم تُدن الهجوم الإسرائيلي على إيران، بل لجأت إلى لغة مزدوجة تتحدث عن "الحق في الدفاع عن النفس" حين تكون إسرائيل هي الطرف المعتدي، بينما تكتفي بدعوات التهدئة حين تردّ إيران. هذا التناقض الفاضح يُفقد النظام الدولي جزءًا كبيرًا من شرعيته، ويؤكّد أن ميزان العدالة في العلاقات الدولية ما يزال مرهونًا بالمصالح وليس القيم.
كيف يمكن للعالم أن يتحدّث عن السلم والاستقرار، بينما يصمت عن اعتداءٍ واضحٍ على دولة عضو في الأمم المتحدة؟ وهل يُعقَل أن يُطلب من إيران أن تتلقى الضربات وتكتفي برفع شكوى إلى مجلس الأمن؟
إن منطق "المُعتدى عليه المتحضّر" لم يعد قابلًا للتسويق، خاصة في منطقة باتت تدرك أن الحقوق لا تُمنَح بل تُنتزع.
الآثار السياسية في الإقليم.. تحولات محتملة في موازين القوى
سياسيًا، قد يشكّل هذه الرد الإيراني نقطة تحوّل في معادلات القوة والتحالفات داخل المنطقة. إذ إنّ القوى الإقليمية، سواء الداعمة لطهران أم المعادية لها، ستعيد تقويم استراتيجياتها في ضوء قدرة إيران على الرد المباشر من أراضيها. دول الخليج، والتي كانت تفضّل التهدئة مع إيران في السنوات الأخيرة، ستُضطر إلى الموازنة بين علاقتها التقليدية مع الغرب وبين واقع إيراني يفرض نفسه قوةً يصعب تجاوزها.
في المقابل؛ قد تجد بعض الدول العربية، مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة، في هذا التصعيد فرصة جديدة لإعادة تقويم سياسة "الحياد النشط" التي تبنتها مؤخرًا؛ فكل تصعيد جديد يدفع المنطقة نحو صيغة جديدة من التفاهمات الأمنية، ربما تؤسس لنظام ردع مشترك، أو على الأقل لمنظومة اتصالات أمنية تضمن الحد الأدنى من التنسيق.
كما أن الموقف التركي سيكون محل مراقبة، إذ تسعى أنقرة لتأدية دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة، خاصة في ظل علاقتها المعقدة مع طهران و"تل أبيب". وقد تجد، في هذه اللحظة، فرصة لتعزيز دورها السياسي والدبلوماسي، خاصة إذا طُرحت مبادرات إقليمية لخفض التصعيد.
الأثر الاقتصادي.. التوتر يهدد سلاسل الإمداد وأسواق الطاقة
اقتصاديًا، لا يمكن التقليل من حجم التأثير الذي قد تُحدثه مثل هذه التطورات في أسواق النفط والغاز، خصوصًا أن المنطقة تُعد شريان الطاقة العالمي. إذ مع كل تصعيد عسكري بين إيران و"إسرائيل"، ترتفع أسعار النفط فورًا، وتتأثر الأسواق المالية بالإشاعات والمخاوف من تعطيل تدفق الإمدادات.
المضائق البحرية، مثل هرمز وباب المندب، باتت تحت المجهر أكثر من أي وقت مضى.. وأي توتر في هذه الممرات الحيوية قد ينعكس على الأمن الاقتصادي لدول كبرى تعتمد على الطاقة القادمة من الخليج. كما أن استهداف البنى التحتية للطاقة في أي دولة قد يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية عابرة للحدود. والاقتصاد الإيراني، على الرغم من العقوبات، قد يستفيد داخليًا من هذا التصعيد في المدى القصير، حيث يعزز الروح الوطنية ويرفع من شعبية النظام. لكنه على المدى البعيد يحتاج إلى استقرار نسبي لجني فوائد حقيقية من تحالفاته التجارية الجديدة، خصوصًا مع الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى. لذلك؛ طهران على الأرجح تدير الأزمة وفقًا لقاعدة: "الردع من دون كسر العتبة الاقتصادية".
الآثار الاجتماعية والنفسية.. تعبئة داخلية واستقطاب خارجي
الرد الإيراني أدى، أيضًا، إلى تعبئة جماهيرية داخل إيران، حيث تجمّع آلاف المواطنين تأييدًا للرد. هذا الزخم الشعبي يعكس ارتفاع منسوب الثقة الداخلية بالمؤسسة العسكرية، ويعزز سردية "الدولة القادرة على الدفاع عن كرامتها"، وهي سردية تحتاج إليها أي دولة تخضع لعقوبات وضغوط خارجية. في المقابل؛ مجتمعات دول الجوار، مثل لبنان والعراق، تعيش الترقب خصوصًا في ظل احتمال تحوّل التصعيد إلى اشتباك إقليمي واسع. ويُضاف إلى ذلك؛ تصاعد الخطاب الطائفي، في بعض وسائل الإعلام، ما يُنذر بعودة الاستقطاب المذهبي في المنطقة، وهو خطر قد يكون مدمّرًا؛ إذا لم يُضبط سياسيًا.
بين حق الردّ وواجب التوازن
الرد الإيراني ليس تصعيدًا مجانيًا، ولا محاولة للهيمنة، هو تعبير واضح عن رفض الخضوع لمنطق الضربات الأحادية. إنها بمثابة إعلان بأن زمن السكوت قد انتهى، وأن إيران، بما تملكه من قدرات وشرعية قانونية، ستدافع عن أرضها وكرامتها. وفي عالمٍ تزداد فيه التحديات وتنهار فيه قواعد القانون الدولي تحت أقدام القوة، تصبح المقاومة السياسية والعسكرية فعلًا سياديًا لا خيارًا. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الرد الإيراني لا كونه تهديدًا، بل إسهامًا في خلق توازن يُلزِم الأطراف كلها باحترام قواعد اللعبة، بدلًا من فرضها بالقوة.
لقد أطلقت إيران صفّارة الإنذار: السيادة خط أحمر، والعدوان لن يبقى من دون رد. ومن يفهم توازنات منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) جيدًا، يدرك أن هذا الموقف ليس تصعيدًا، بل محاولة أخيرة لفرض منطق الردع بوجه من لا يفهم إلا لغة النار.
إنّها معادلة جديدة في منطقتنا : إذا ضُربت، فلن تصمت. وإذا هُدّدت، فلن تتراجع..
والزمن وحده كفيل بكشف من سيفرض منطقه في النهاية: منطق القوة الصامتة أم منطق السيادة المدافِعة؟