اوراق خاصة

سياسة "الابتزاز" وتجلياتها الواقعية في السياسة الأميركية

post-img

نسيب شمس/ كاتب وصحافي لبناني

لطالما كان "الابتزاز" (Blackmail) من الأدوات التي تلجأ الدول والفاعلون السياسيون لاستخدامه؛ سواء على مستوى العلاقات الدولية أم المستوى المحلي. إذ يعدّ "الابتزاز" نوعًا من الممارسات الإكراهية للقوة والنفوذ، وذلك من أجل تحقيق أهدافٍ محددة وإجبار الآخرين على الاستجابة بطريقة متناسبة ومصالح الفريق الذي يمارس الابتزاز. ولقد تصاعد استخدام "الابتزاز"، بشكل كثيف وغير اعتيادي، مؤخرًا، حتى بات من الملامح الأساسية للتفاعلات العالمية في الزمن الراهن.

لكن ما هو "الابتزاز"؟

أشار قاموس (Urban Dictionary) إلى أن مصطلح "الابتزاز" (Backmail) يتكون من عبارتين (Black) "الأسود" و(Mail) "البريد أو الرسالة"، أي إن "الابتزاز" هو "رسالة سوداء". وهذا يشير إلى الطبيعة السلبية والخطيرة للرسائل التي يرُسلها المُرسل إلى المُتلقي لتكشف عن تهديده له.

أما قاموس "أكسفورد" (Oxford) يعرّف "الابتزاز" بأنه: "استخدام التهديدات أو التلاعب بمشاعر شخص ما أو أشخاص ما لإجبارهم على القيام بسلوك ما"، بينما عرّف قاموس "كامبريدج" (Cambridge) "الابتزاز" بإنه "فعل ممارسة التهديد للإضرار بشخص ما أو الإضرار بسمعته ما لم يقم هذا الشخص بفعل ما يمليه عليه شخص آخر".

تشير هذه التعريفات لمصطلح "الابتزاز" إلى أنه سلوك بشري سلبي؛ يمتد إلى المجالات والمستويات كافة، نظرًا إلى أنه يُعنى بشكل أساسي بتحقيق مكاسب غير مشروعة بطرائق غير مشروعة أيضًا، كونه يتضمن تهديدًا صريحًا أو مبطنًا بإلحاق الضرر المادي أو المعنوي في حال عدم الاستجابة لشروط الطرف المُرسل للابتزاز. وبالتالي تتكون عناصر الابتزاز من: طرف أو أطراف تمارس الابتزاز، وطرف أو أطراف تتعرض لهذا الابتزاز، وعملية تنشأ بين هذه الأطراف مجتمعة؛ حيث تتضمن شروطًا وضغوطًا وتهديدات من الأول ونمطًا من الاستجابة من الثاني.

من الملاحظ، في هذه التعريفات، أن "الابتزاز" لا يتضمن أي حوافز للمتلقي لحثه على الاستجابة، وإنما يتضمن فقط التهديد والقهر والضغط بطرائق غير مشروعة. ويمكن القول إن "الابتزاز" في العلاقات الدولية يجد إطاره النظري في قلب المدرسة الواقعية الكلاسيكية، وتحديدًا في نظرية القوة، حيث يرى أصحاب هذه المدرسة أن هدف القوة يجب تحقيقه لذاته، بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ما يدخل في المصلحة الوطنية للدولة. كما تعني القوة " القدرة العامة للدولة/ دول ما على ضبط والتحكم في سلوك دولة/ دول ما".

في هذا المجال؛ يُعرّف "ايليزبيرغ" (Ellsberg) "الابتزاز" بأنه: "فن التأثير في سلوك الآخرين باستخدام التهديد، ومثله مثل سائر كل الفنون له أساليبه وأهدافه ووسائله". كما يرى "شيلينغ" (Shelling) أن: "الدول تستطيع تحقيق مصالحها من دون الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية من خلال التأثير في الفاعلين الآخرين؛ وإقناعهم بأن الخسائر التي سيتحملونها إذا لم يستجيبوا لمطالب ذلك الفاعل أكبر بكثير من المنافع التي قد يحققونها إذا لم يلتزموا". فيما يساوي "ايليزبيرغ" بين "الابتزاز" و"الإكراه" (Coercion)، فيرى أن كليهما ينطوي على التهديد بممارسة القوة الصلبة بالأساس من جانب طرف ضد طرف آخر في سبيل التأثير في سلوك الطرف الآخر وخياراته وفقًا لرغبات الطرف الأول ومصالحه".

هذا؛ فيما تيمز بعض الأدبيات السياسية بين "الإكراه" و"الردع"، إذ إن الأول يقوم أساسًا على رد الفعل (Reactive)؛ بينما يقوم الردع على المبادأة، إي أن يبدأ الطرف الأول بممارسة التهديد لضمان منع الطرف الأخر  من ممارسة التهديد لضمان منعه من القيام بأي تصرفات معادية له أو غير مرغوب بها في المستقبل، من خلال إظهار قدرة الفاعل الأول على الرد (Retaliate) .

جدير بالذكر وجود أنماط للابتزاز مثله مثل علاقة ممارسة القوة، وكذلك أدوات، ومن أهم الأنماط:

  1. الابتزاز الصلب: هو النمط الأكثر شيوعًا في العلاقات الدولية تاريخيًا، ويرتبط بتهديد دولة لدولة بإلحاق الضرر أو الأذى العسكري أو اقتصادي بهدف التأثير في سلوكها وإجبارها على سلوك آخر، مثال تهديد الرئيس دونالد ترامب للدول بقطع المساعدات الأميركية في حال التصويت ضد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس. ولا ننسى سياسة الولايات المتحدة مع إيران، حين استخدمت الابتزاز والتهديد بعدما انسحبت من الاتفاق النووي.
  2. الابتزاز الناعم: يعتمد على أدوات غير صلبة؛ لا ترتبط باستخدام القوة الصلبة (العسكرية) أو فرض العقوبات الاقتصادية، بل يعتمد التأثير في سمعة الدولة والتشهير بها من خلال تسريب معلومات ما أو كشف قضايا فساد. ومثال ذلك؛ تقارير مؤسسة فريدوم هاوس(Freedom House) وهي منظمة غير حكومية، تقوم منذ العام 1941، على متابعة "مؤشر الديمقراطية" و"حقوق الإنسان"، في مختلف دول العالم، وقد تعرضت لانتقادات لانحيازها للإدارة الأميركية بسبب حصولها على 88% من إجمالي تمويلها من الإدارة المذكورة.

لقد برزت ظواهر على الاستخدام المتصاعد للابتزاز، مؤخرًا، فقد شهدنا ابتزاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحلفائه قبل خصومه بهدف الحصول على منافع مادية أو تقديم تنازلات ما تصب في مصلحة الولايات المتحدة. وذلك باستخدام ورقة الحماية الأمنية أو بعض الأدوات الاقتصادية. وما شهدناه في الشهور الماضية من ابتزاز أميركي لإيران في ملفها النووي.

اليوم تتعرض إيران للاعتداء الإسرائيلي، من خلال استخدام الكيان المؤقت للقوة الصلبة، في حين تمارس الولايات المتحدة الابتزاز والمناورة لدفع إيران لطلب التفاوض لفرض شروط الاستسلام. ولعل ذلك يعبر عن الصلف والتعسف والتعنت الأميركي – الإسرائيلي فيما تتعرض له الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم، ما يضع العالم على شفير الانفجار الكبير.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد