د. ليلى صالح/باحثة في الشأن السياسي
قرابة نصف قرن، والاستكبار العالمي المتمثل بأمريكا وحلف الناتو يعملان على اسقاط الدولة الإيرانية الصاعدة المناهضة للهيمنة الغربية في إقليم غرب آسيا. وأوضح مقاربة على ذلك؛ في تصريح المستشار الألماني فريدريش ميرتس، على هامش قمة مجموعة السبع في كندا، بأن "إسرائيل" تقوم حاليا بـ"العمل القذر" نيابة عن الغرب بأكمله، ليأتي تحول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الى قائد عمليات عسكرية، عندما يطلب من الشعب الإيراني إخلاء طهران لإنقاذ "إسرائيل" من سقوط ردعها الاستراتيجي نتيجة تجرؤ الصواريخ البالستية الإيرانية على دكّ عمقها الاستراتيجي في "تل أبيب" (كوشدان)، ليقوم بعملية عسكرية مباشرة بضرب المنشآت النووية السلمية، ليعلن نهاية 40 عامًا تقول إيران الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، ويطلب منها الاستسلام..
السؤال: هل تمكّنت هذه العملية من ترميم الردع الاستراتيجي الغربي في المنطقة أم فتحتها على تحولات ردع إقليمية إيرانية؟
أولًا- ما المقصود بالردع الاستراتيجية؟
الردع الاستراتيجية هو قدرة الدولة على فرض قوتها، في التوازنات الإقليمية والدولية، ما يلحظ عدة جوانب:
1. الأمن القومي: يتعلق بحماية الدولة من التهديدات الخارجية والداخلية وضمان استقلالها وسلامة مواطنيها.
2. الاقتصاد: تشمل سياسات الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية والتنمية الصناعية لضمان الاستقلال الاقتصادي والازدهار.
3. السياسة الخارجية: تحديد علاقات الدولة مع الدول الأخرى وتشكيل تحالفات وشراكات استراتيجية لتحقيق مصالحها الوطنية.
4. الثقافة والهوية: تعزيز الهوية الوطنية والقيم الثقافية وترويج صورة إيجابية للدولة في المجتمع الدولي.
5. التكنولوجيا والابتكار: الاستثمار في البحث والتطوير وتطبيق التكنولوجيا لتعزيز التنافسية الاقتصادية والعسكرية للدولة.
تحديد هذه الأبعاد وتنفيذ السياسات المناسبة، في كل منها، يسهم في تحقيق ردع الدولة وتعزيز مكانتها على الصعيدين الوطني والدولي.
أما الأبعاد الاستراتيجية للضربة العسكرية؛ فيمكن التفكير في عدة جوانب منها:
1. الهدف العسكري: يتمثل بتحديد الهدف الرئيس للضربة العسكرية، مثل تدمير بنية تحتية عسكرية أو تعطيل قدرات عسكرية للخصم.
2. الهدف السياسي: يتعلق بالأهداف السياسية المرتبطة بالضربة العسكرية، مثل تغيير نظام حكم أو إضعاف قدرة العدو على المضي قدمًا في سياسته.
3. التحالفات والتأثير الدولي والإقليمي: تأثير الضربة العسكرية في العلاقات مع التحالفات والشركاء الدوليين والإقليميين، وكيفية تأثيرها في توازن القوى الإقليمي والدولي.
4. النتائج المتوقعة والمخاطر: تقويم النتائج المتوقعة للضربة العسكرية، منها النتائج المحتملة الإيجابية والسلبية، والمخاطر المحتملة مثل التصعيد العسكري أو ردود الفعل الدولية.
5. التأثير في السكان المدنيين: تأثير الحرب في السكان المدنيين والبنية التحتية المدنية في لحاظ العمق الاستراتيجي للدولة، والقدرة على تحمّل تحول الضربة إلى حرب استنزاف.
ثانيًا- السياسة الأمريكية في غرب آسيا
أطلقت الإدارة الأمريكية سلسلة مشاريع أزاء منطقة غرب آسيا لاستمرار هيمنها، ومواجهة المساعي التحررية السيادية من جماعات وحركات ودول، فكان مشروع القرن الأمريكي الجديد، ومشروع "الشرق الأوسط الكبير" فــ"الجديد"، وحاليًا المشروع الأبراهيمي. ودعمت الكيان المؤقت حاملة الطاىرات الأمريكية وقلعة الغرب، بحسب توصيف هرتسل، بدوره الوظيفي في المنطقة.
استنفذت أمريكا في هذه المشاريع استراتيجيات الحروب كلها التي أنتجها العقل السياسي الغربي، فاستخدمت فيها الحروب التقليدية العسكرية التي فرضت على إيران من وكلاء أمريكا في المنطقة، وصناعة عدو تكفيري ينوب عنها في حروب أيديولوجية، وحروب اقتصادية تفرض عقوبات بقوانين أعدتها ونظمتها منظمات عالمية تماسسة لخدمة القوى الدولية المتسلطة على العالم، مرورًا بالحرب الناعمة والثورات الملونة لإسقاط الأنظمة من الداخل، وصولًا إلى الحروب المركبة بعد محاولة محاصرة إيران قائدة محور الممانعة، بحسب توصيف الغرب، بطوق لوجستي تنتشر فيه قواعد عسكرية وأمنية أمريكية وغربية، وصولًا الى دخولها الداعم والمباشر في الحرب "الإسراىيلية" التي فرضتها على إيران، انتهت بدعوة أمريكية عاجلة لوقف إطلاق النار.
ما هي ارتدادات هذه الدعوة ؟
نهاية الصبر الاستراتيجي والرد الإيراني
منذ انتصار الثورة الإسلامية وإيران تبني دولتها الصاعدة داخليا ًفي المجالات كلها، ورفعت شعار"لا شرقية ولا غربية" في سياستها الخارجية، والذي شكل مرتكزًا وطنيًا للسيادة الإيرانية وعدم التبعية للمحاور المتسلطة على الدول والشعوب، فأسس لمبدأ العداء لأمريكا "الشيطان الأكبر" وربيبتها" إسرائيل" الغدة السرطانية، فالعداوة لإسرائيل ضرورة إيديولوجية، دفعها لتتبنى القضية الفلسطينية المركزية واعتماد سياسة دعم الحركات التحررية ماديًا ومعنويًا.
ما تعرضت له المنشآت النووية الإيرانية السلمية ليس مجرد عدوان عسكري، هو سابقة يجب التصدي لها. اليوم إيران، وغدًا، قد تكون أي دولة نامية تسعى للنهضة، فمقاومة تسلط محور الغرب بقيادة أمريكا ضرورة وجودية لحماية مبدأ سيادة الدول النامية. كما يدلل هذا الاستهداف الأمريكي غير المسبوق للمنشآت النووية على متغير دولي إقليمي وتطور بالغ في الحرب الأمريكية على إيران، وجزء من تكتيك استراتيجي تميز بارتفاع درجة خطورته بمستويين: المستوى الأول، أداتي، بدخول أمريكا المباشر بتخطيط إستخباراتي وعسكري مسبق منسق مع "إسرائيل" والاستخبارات الغربية. المستوى الثاني: توسع لحرب إقليمية، تكون إيران أبرز أدواتها في المنطقة، ولا تخفى مخاطرها الدولية.
في المستوى الأول، تعدّ الأنشطة النووية المدنية، حقًا سياديًا مكفولًا للدول الموقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النوو(NPT). وقد أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مرارًا أن إيران تمتثل للرقابة وتفتح منشآتها للتفتيش، على الرغم من الضغوط والحملات الإعلامية الغربية التي تُشيطن برنامجها. ما يعني أن هذه الحرب لم تأتِ نتيجة تطور متغيرات في الملف النووي الإيراني السلمي، بل بدأت علنًا منذ انتصار الثورة الإسلامية، وتستمر بأدوات استراتيجية مختلفة.
في المستوى الثاني؛ يقوم "الكيان المؤقت" بوظيفة الردع الإقليمي على دول وحركات المنطقة، مدعومًا من أمريكا والحلف الغربي قرابة أكثر من ربع قرن. إلا أن حكمة وحنكة إيران في تبنيها استراتيجية دفاعية في كل الحروب المتنوعة التي فرضت عليها، واستخدامها سياسة الصبر الاستراتيجي على الاعتداءات والاستهدافات الأمنية الاستخباراتية الداخلية والخارجية، ضبط مسار الحروب في المنطقة من توسعها إلى حرب إقليمية. وإن يأخذ بعض المحللين السياسيين بأن هذه السياسة جرأت هذا "الكيان المؤقت" على استباحت المنطقة والاعتداء على الدول التي تدعم إيران قضاياها التحررية، حين تصفها السياسة الغربية بــ"الأذرع الإيرانية".
الرد الإيراني بقي مضبوطًا بمسار محكم، تحت شرعية القوانين الدولية في الرد، وصولًا إلى دخول أمريكا بالاعتداء المباشر على المنشآت النووية السلمية.
في ما يلي نوجز مسار الرد الإيراني العسكري المباشر من دولة الى دولة و"الكيان المؤقت":
أولًا- دخول أمريكا المباشر في مواجهة إيران
من العام 1973 إلى اليوم؛ لم نجد مواجهة مباشرة وصريحة بين حلف الغرب بقيادة أمريكا وبين أي دولة أخرى.ويعد استهداف المنشآت النووية أحد أخطر مظاهر التصعيد في الحرب على إيران، نظرًا إلى ما ينطوي عليه من تهديد واسع النطاق على الإنسان والبيئة والنظام الدولي برمّته، من حيث طرح إشكاليات قانونية متعددة تتعلق بمدى مشروعية هذا العدوان في ضوء قواعد القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، والاتفاقيات المتخصصة في حماية المنشآت النووية ومنع الانتشار النووي، وعضوية إيران فيها والتزامها باتفاقية حظر الأسلحة النووية ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT). وسياسة مبدأ التمييز، والتناسب، وحماية البيئة، في ظل ما يمكن أن ينجم عن استهداف منشأة نووية من كارثة نووية عابرة للحدود تمسّ البشرية جمعاء.
لقد تزامنت الضربة الأمريكية مع مؤشرات لانسداد الأفق الدبلوماسي وخيار المحور الغربي للحرب، كشفته لإيران مدلولات الورقة المقدمة من الترويكا الأوروبية (فرنسا ايطاليا المانيا) في جنيف من أربع بنود :
1. إزالة برنامج إيران النووي، وقف التخصيب يعني إنهاء هذا البرنامج تمامًا.
2. إزالة البرنامج الصاروخي البالستي الإيراني، يتضمن نوعًا من المراقبة لهذا البرنامج يضمن عدم تطوير منظومة الصواريخ التي من الممكن أن تستهدف "إسرائيل" قلعة الغرب وقوة ردعه الاستراتيجي.
3. تعاون إيران مع حلفائها في المنطقة.
4. يتعلق بملف مجموعة من السجناء الغربيين في السجون الإيرانية، ومما لا شك فيه تعلق هذا الملف بالعملاء.
في مقارنة أولية للوقائع مع أهداف الضربة، تبين الآتي:
- لم تُقدّر الأضرار بحسب الوكالة الذرية، إلا أن هذا لا يعني إنهاء البرنامج العلمي الموجود في عقول الآلاف الخبراء، فاليورانيوم المخصب نقل الى أماكن أخرى، كما أجهزة الطرد المركزي الحديثة المتطورة التي يمكن نقلها بخلاف الأجهزة القديمة التي تركب مع البناء، ما يفضي إلى نتيجة حتمية بأن الجزء الأكبر من البرنامج النووي لا يمكن إنهائه.
- في الجزء المتعلق بالصواريخ البالستية الإيرانية محلية الصنع، فإن تعزيزه بات أولوية استراتيجية سياسية بعد الحرب الأخيرة، وفقًا لسردية التفوق التقني البلازمي أمام خيارات تقنية أخرى، ويعد من الإنجازات السياسية الداخلية.
- تبين طلب أمريكا وقف إطلاق النار بعد الرد الإيراني على ضرب القواعد الأمريكية وتحقيق استهدافات دقيقة استراتيجية على كامل الكيان المؤقت، تلافيًا لحرب استنزاف لا تقوى على تحمله الجبهة الداخلية من المستوطنين؛ فضلًا عن الخسائر التدميرية في عمقها الاستراتيجي، ما يعني حتمية فقدان "إسرائيل" قوة ردعها الإقليمي بحال إطالة أمد الحرب.
ثانيًا- الرسائل في استهداف قاعدة "العديد" في قطر
يحمل استهداف قاعدة "العديد" في قطر كثيرًا من الرسائل السياسية والعسكرية، والتي يبنى عليها في مآلات صراع محور الغرب في منطقة غرب آسيا. سنتعرض لقراءة موجزة لبعض منها لاستشراف السيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في الحرب الصهيونية- الأمريكية على الجمهورية الإيرانية.
1. تشكّل قاعدة العديد الأمريكية في قطر أكبر وأهم مركز حيوي جوي عسكري واستخباراتي أمريكي غربي في المنطقة. وأهميتها الجيوسياسية قربها من العاصمة القطرية والحدود الأيرانية، ما يدخلها في مسار ردع إقليمي لدول الخليج قبل الردع الأمريكي الدولي للمنطقة.
2. إبلاغ قطر باستهداف القاعدة يقع ضمن الرؤية الإيرانية بالصداقة مع قطر، وهي التي حمتها سابقًا، فهي رسالة سياسيًا أولًا لقطر مفادها: بأن التحول في الرؤية السياسية أزاء قطر مرهون في موقفها من مآلات الحرب الأمريكية في المنطقة وتحديدًا على إيران. كما أنها في الوقت نفسه تحمل رسالة اقتدار وقوة لكل دول الخليج، حيث لا يمكن لهذه الدول أن تتحمّل وصول النار إليها ما يضعها في أزمة مصيرية.
3. الخصوصية المتعلقة المتعلقة بالطلب الأمريكي بوقف إطلاق النار، يحدد مستوى توازنات القوى على المستويات العسكرية والسياسية والدبلوماسية، في رسم توازنات قوى المنطقة. يؤسس عليه معادلة ردع إقليمية جديدة بين امتلاك إيران إدارة القوة والسيطرة، وفقدان" الكيان المؤقت" القدرة والسيطرة من دون الدعم المباشر اللوجستي الأمريكي وانهيار منظومته الردعية العسكرية" القبة الحديدية، مقلاع داوود، منظومة الرادارات" أمام الصواريخ الإيرانية التي كشفت هشاشة قدرة مستوطنيه على تحمّل حرب استنزاف طويلة، مقابل تماسك وإلتحام الجبهة الداخلية الإيرانية، بصورة غير مسبوقة.
في هذا الصدد؛ يقول خبير استراتيجي فرنسي إن الفارق بين "إسرائيل" وإيران هو أن الأولى تحمل تطلعات وترسم سياسات يثبت كل يوم أن إمكاناتها حتى عند توافر الدعم الغربي والأميركي خصوصًا، أقل بكثير من اللازم لتحقيقها؛ بينما يحدث العكس مع إيران. هي تملك تواضعًا وواقعية بالتطلع لدور أقلّ بكثير مما تتيح إمكاناتها، لكنّها تحمل مبادئ تجعل التصادم معها حتميًا ما يكشف ضخامة إمكاناتها ويصنع لها دورًا لم تكن قد حدّدته هدفًا لها، وبالتوازي تدخل "إسرائيل" حروبًا تحتاج إلى بيئة ومدى استراتيجيّ في الجغرافيا والديمغرافيا غير متاحين، ويستحيل الحصول عليهما. بينما تملك إيران في الجغرافيا والديمغرافيا بيئة ومدًى استراتيجيًا ما يتيح لها اكتشاف ضآلة ما تستدعيه منها هذه الحروب التي تفرض عليها غالبًا من دون أن تذهب هي إليها.
تاليًا؛ استخدام الخيار العسكري بأعلى مستوياته وتكريس مشهد الدمار الواسع سيبقى عالقًا في ذاكرة الوعي الجمعي الوجداني في الجبهتين. مع فارق ارتدات قوة واعتزاز في جبهة محور المقاومة في مشهد الدمار الهائل في الكيان المؤقت، وكي الوعي عند المستوطنين وانهيار قوة الأمنية التي يبنون عليها ما يسمى بدولة الكيان. هذا فضلًا عن هروب "إسرائيل"من الحرب الطويلة باستراتيجية منع مغادرة المستوطنين، ينذر بتهديد "الأمن القومي" الذي سيكون الرادع عن مهاجمة ايران، بعدما تعطلت قوة الردع الاستراتيجية وتكرس مفهوم القدرة الصاروخية.