تقرير وإعداد: د. زينب الطّحان
أرَى نَفْسِي كَالسَّحَابَةِ،
وَهِيَ تُمْطِرُ فَوْقَ سَهْلِ الْبِقَاعِ،
وَحِوَارُ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ فِي بَحْرِ بَيْرُوتَ وَصُورَ،
وَأَقُولُ كَأَنِّي مِنْ عَامِلَةِ الْكِتَابِ،
أَحْمِلُهُ حَيْثُمَا رَحَلْتُ،
وَإِذَا اغْتَرَبْتُ،
أَرَى كُلَّ مَنْزِلٍ مِنْ بِلَادِي قُرْبِي،
فَكَيْفَ أَسْكُنُ فِي غُرْبَتِي مَنْزِلَ قَلْبِي؟
من سهل البقاع؛ حيث مسقط رأسه وهو ابن "الهرمل" الأصيلة في التأريخ والجغرافيا، إلى بقاع جبل عامل حيث مدينة صور التي انكسر على أعتابها أعتى الجبابرة منذ مئات السنين، في حروب دامية لطالما رسّخ أبناؤها مع نهاية كل حرب منها أن الجذور المتأصلة منذ الأزل هي الأجدر بالبقاء.. وكأنّ الحروب هي ديدان هذه البقعة الجغرافية الصغيرة من العالم، حين كانت "جبل لبنان" التابع لريف مدينة دمشق وعندما أضحى "دولة لبنان الكبير" الذي أعاد رسمه الاستعمار القديم، هي الحروب التي لا تنتهي؛ ولكلّ حربٍ سرديّة وقصصٌ وأبطال ومثقّفون ومفكّرون يصوغون وعيها.. وهذا على ما يبدو هو العامل الأكثر رسوخًا في وجدان "ابن الهرمل"؛ والذي يرى نفسه كالسحابة، إذ يحمل الشاعر والروائي والوزير السابق الدكتور طراد حمادة ذلك الإرث المعرفي والفلسفي الذي تميّز به نخبة عريضة من أبناء المنطقة طوال تاريخها الجهادي ضد حقب الاستعمار؛ فجاءت روايته الأخيرة "سردية الحرب الكبرى"، والصادرة عن دار البلاغة، تتويجًا لهذا التأريخ العريق الذي يكتبه أبناء هذا البلد الصغير بالدم قبل حبر الكلمات.
النائب حمادة: مقاربة روائية بين فلسفة طراد حمادة وتولستوي في سردية الحرب
"سردية الحرب الكبرى"، احتفى بتوقيعها المركز الإسلامي الشيعي الأعلى في ضاحية بيروت الجنوبية راعيًا إياه نائب رئيس المجلس فضيلة الشيخ علي الخطيب، عصر يوم أمس الثلاثاء، حيث وسع المكان بالشخصيات السياسية والأدبية والثقافية والإعلامية الذين جاؤوا للاحتفاء بهذا التوقيع الرفيع لأديب عصرته السّنون عطاء فكريًا وأدبيًا وفلسفيًا، مثلما قدّمه الكاتب والإعلامي روني ألفا، والذي تميّزت كلمات تقديمه بنصّ أدبي آخر يتحدث عن الأديب والمثقف الكبير حمادة وعن تساؤل معنى "الحرب الكبرى"؛ ومنذ متى لم يعش لبنان هذا الوطن الصغير حربًا كبرى؟
لقد كانت ورقة النائب والأستاذ الجامعي الدكتور إيهاب حمادة ردًا عن هذا السؤال الكبير؛ حين أجرى مقارنة أو مقاربة نقدية بين السرديات الأدبية التي قدمها الأديب الروسي ليف نيكولايفيتش تولستوي؛ والذي لا يكتفي بوصف الحرب، بما فيها من أحداث تاريخية موضوعية، هو يُدخل رؤية فلسفية وشخصية عميقة من خلال: تجارب الشخصيات الأساسية في روايته، وأيضًا بيير بيزوخوف الذي يخوض تجربة الحرب بصفة مراقب، فيخرج منها بتحول فكري وروحي. ويكمل الدكتور حمادة ليوضّح أكثر: التحليل الذاتي والوجودي يهيمن، خاصة في الفصول التي يتأمل فيها تولستوي، على لسان بيير أو أندريه، في معنى الحرب والقدر والسلطة". رواية "الحرب والسلام" تصف الحرب من خلفية ذاتية وإنسانية وفلسفية، لا فقط بكونها حدثًا عسكريًا.. تولستوي يُسائل معنى الحرب عبر عيون شخصياته وأفكارهم، أكثر مما يعتمد في هذا التساؤل على السرد التقليدي لمسار الأحداث وتطورها. وفي هذا الجانب يلتقي الروائي "طراد حمادة"، في "سردية الحرب الكبرى" مع براعة تولستوي ودقته الوصفية وما فيها من بناء فلسفي للمكان والزمان والشخصيات، فيغوص في النفس البشرية ليكشف سر أسئلتها الوجودية وهي تخوض حربًا غير مسبوقة، على الأقل، في لحظتنا الراهنة.. تكتمل رؤية الراوي مع ما حملته هذه الحرب الكبرى، أيلول 2024، من كشف أعماق الضمير الإنساني وعلاقته مع هموم معنى الهوية والتمسك بالأرض حين يواجه آلة متوحشة تبتغي اقتلاعه من مكانه التاريخي ليبني سردية مغايرة من هويات متشظية.
الناقد الدكتور عبد المجيد زراقط: أسطر هذه الحرب الكبرى غير المسبوقة في الزمن
اختلف موضوع ورقة الناقد الأدبي العريق الدكتور عبد المجيد زراقط؛ والتي فكك فيها سيميائية العنوانين التي حملتها الرواية، من الصفحة الأولى "فاتحة الرواية" إلى الآفاق التي ختمت سطورها، وتحدث عن هوية الرواية أدبيًا؛ مميّزًا الفرق بين الرواية والرواية السيرية؛ في أنَّ المرجع الذي تصدر عنه الرواية السيرية، أي المادة الأوَّليَّة التي تُصنع منها هذه الرواية، هي وقائع سيريَّة يختارها الراوي من منظوره، ويقيم منها بناءً روائياً متخيَّلاً من المنظور نفسه، ينطق برؤيته إلى العالم وقضاياه.
كما يضيف موضَحًا: "الوقائع السيرية، في هذه الرواية، مأخوذة، كما تفيد قراءتها، من سيرة الروائي الذي عاش الحرب وذاقها، ومن سيرة الحرب نفسها. نقرأ، في الرواية، على سبيل المثال:" أريد أن أكتب عن أحوالي، في هذه الحرب"( ص. ٣١)، ونقرأ كذلك :" من يوم شُغلت بفلسفة الوجود، وأنا والزمان صاحبان، ولكن منذ بدأت الحرب التي أروي سيرتها، أصبح الزمان يُعارض مسار أيَّامي، أصبحت أيَّامي خارج الزمان، لأنَّ الحرب...تُحيل كلَّ وقتٍ إلى رمادٍ ودمار". وهذا يعني أنَّ المادَّة السيرية، أي المادَّة الأوَّلية نفسها، التي تُصنع منها الرواية، تسهم في تشكيل المنظور الرائي إلى العالم المرجعي، والمشكل العالمَ الروائي".
يغوص الناقد زراقط أكثر في فكفكة العمق الفلسفي للرواية؛ في كتابة أسطر هذه الحرب الكبرى غير المسبوقة في الزمن، حين يطرح القارئ هذا السؤال، ويجيب الراوي عنه: في فصول هذه الرواية: الأمر متروك للصانع العاشق في الميدانين: القتال وكتابة حكايته، ما يعني أنَّ هذه الحرب لمّا تنته بعد، وقد بدأت منذ استفاق التنين المعاصر، وغزا وطننا، وغرس في قلبه أداة من أدوات حربه، وهي حربٌ مستمرة. ومن هذين الأمرين، إضافة إلى أمور أخرى، هي الحرب الكبرى، وما لم يكتب من سطورها هو الاَتي، والمقاومون هم الذين سيكتبونه، وما يكتب، الاَن، هو ما ذقناه وعشناه، مايذكِّر بقول زهير بن أبي سلمى:" وما الحرب إلا ماعلمتم وذقتم/ وما هو عنها بالحديث المرجَّم".
وفي هذه الحرب يشتدُّ التعلُّق القلبي بمنزل في الأرض،لا يكون إلا على سجادة ترابه الوجود الحقيقي الذي يستحق الحياة، والزمان فيه يجمع بين الماضي والمستقبل في الحاضر حتى يقظة الفجر التي يصنعها المقاومون نهاية لهذه الحرب. وهذا يعني أنَّ ما كتب، في هذه الرواية، أملاه مسار الأيام، فهي، أي الأيَّام، تنتج أدبها الخاص، وما أنتجته أيَّام هذه الحرب أنَّها حرب كونية وجودية، غير مسبوقة في الزمان بين الحروب، " تخلَّت عن كل قاعدة ، حرب لا أخلاق لها، ولا قواعد، ولا أسس، ، ولا مثال...".
قبل أن يختم زراقط ورقته النقدية؛ يتوقف عند الإشارات الكربلائية المرسومة بلغة عرفانية في رواية" سردية الحرب الكبرى"، " تبدو غارات هذه الحرب لصالح ، وهو يحاور الراوي، كأنَّها "سهام القوم إليكم"، فيحمل المقاوم سلاحه وجراحه ودمه وأنفاسه، ويرتدي قميص القاسم، ويقاوم..". وفي كلماته الأخيرة نفهم أن الراوي بقصد بكل حرب هي حرب كبرى لأنَّها، في حقيقتها، "دفاع عن سلام الإنسان مع الإنسان، وتحقيق للوجود الذي فيه الحقُّ والخير والجمال، ولأنَّ كلَّ جَوْرٍ واحتلال إلى زوال".
المحتفى بروايته حمادة: حين تثقل الغربة وجدانك بألم الحرب
لم ينته حفل توقيع "سردية الحرب الكبرى" إلّا مع صعود مؤلفها الدكتور طراد حمادة إلى المنبر، ليروي لجمهور الحاضرين كيف اختمرت في وجدانه وذهنه فكرة الرواية، وكيف حاصرت مشاعره، وهو الذي كان محاصرا بالقصف الهمجي حين بقي في الضاحية مع زوجه وحيدين، حتى اضطر مغادرًا في "هجرة مؤقتة"، كانت اغترابًا زادت من لهيب مشاعره بألم الوطن وبطولة المقاومين وارتقاء القادة الكبار شهداء، أن أمسك القلم ليكتب سيرة اعتقد أنها سيرته، وما أن اكتملت أشرقت لوحة تضمّ تاريخ وطن وأمّة لا تنكسر أبدًا..
في ختام الحفل، وقّع الروائي والشاعر طراد حمادة نسخًا من الرواية للحضور.