اوراق مختارة

صحافيو غزة في الإعلام الغربي... كما لو أنهم ضحايا حرب غامضة

post-img

نور بعلوشة/ العربي الجديد

لم يعد استهداف الصحافيين والمسعفين في غزة حدثًا استثنائيًا أو صادمًا، بل أمسى جزءًا من بنية العنف ذاتها. ففي 25 أغسطس/آب 2025 الماضي، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر الطبي في خانيونس، ما أدى إلى مقتل خمسة صحافيين وإصابة آخرين في وضح النهار وأمام الكاميرات: الصحافية مريم أبو دقة (أسوشييتد برس/إندبندنت عربية)، المصوّر حسام المصري (رويترز)، زميله الجريح حاتم خالد (رويترز)، المصوّر محمد سلامة (الجزيرة)، والمصوّر معاذ أبو طه (إن بي سي)، وأحمد أبو عزيز (شبكة قدس فيد).

ولم تكن تلك المرة الأولى، فهذه الجرائم مستمرة ويومية ولا يحدّها شيءٌ إلا الصدفة التي تجعل بعض الكاميرات معلقة لتلتقط هذا الموت والتضليل والتغافل عن كل الخطوط الحمراء بحق المدنيين والمسعفين والصحافيين هنا وهناك. ففي مارس/آذار الماضي، التقطت الكاميرات بصعوبة استهداف المسعفين في مدينة رفح جنوبي القطاع، حيث قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي 15 مسعفًا من الهلال الأحمر والدفاع المدني، وسُوّغت الجريمة بمبررات تقنية وأمنية. وتبنت جهات إعلامية عالمية، من بينها أسوشييتد برس وبي بي سي وقتها، خطابًا يبرر الجريمة ويدفن الحقيقة على شكل تأطير مستمر لجرائم الاحتلال في غزة.

لكن الآن في خانيونس كانت الجريمة علنية، في وضح النهار، تُمارَس بحرفية كاملة تتجاوز القانون الدولي الذي يجرّم استهداف المدنيين والصحافيين والمسعفين. وعليه، فهذا النمط من القتل العلني يكشف تحوّلًا أعمق: تطويع العنف وجعله ممارسة يومية "طبيعية"، وتطبيع العالم معه عبر صمت المؤسسات الدولية والإعلامية. هذه المؤسسات لا تشارك في التضليل فقط، بل تمارس التخلّي الأخلاقي والإنساني والقانوني مع من ينقلون لها الصورة في أصعب اللحظات وأقسى المشاهد.

في خبرها عن استهداف مستشفى ناصر، قدّمت وكالة أسوشييتد برس الصحافية مريم أبو دقة بعبارة تقنية، فوصفتها:

A freelancer who worked for the AP (صحافية مستقلة عملت مع الوكالة). هذا التوصيف، وإن كان صحيحًا تعاقدًا، يختزل مسيرة أبو دقة المهنية ويضع مسافة بين المؤسسة والضحية، فتتحوّل الجريمة من استهداف مباشر لصحافية في الميدان إلى حادث يقع خارج مهمة الوكالة. وفي مقابل هذا الإطار القانوني المحايد، أدرجت الوكالة في متن الخبر وصفًا إنسانيًا لأبو دقة باعتبارها "أمًا لابن يبلغ 13 عامًا، اتخذت من مستشفى ناصر مقرًّا لتغطية جهود الأطباء في إنقاذ الأطفال من المجاعة". لكن هذا البعد الإنساني ظل ثانويًا أمام التعريف الرسمي الذي وُضع في الصدارة. بذلك، يظهر التناقض: الوكالة تعترف بعمل صحافيتها الميداني الحيوي، لكنها تُصر على تعريفها على أنها Freelancer، في صياغة تخفف المسؤولية المهنية والقانونية عنها. يكشف هذا أن الهدف لم يكن تكريم صحافية فقدت حياتها وهي تؤدي عملها، بل حماية المؤسسة من التبعات القانونية والسياسية عبر تأطير القتل حادثةً شخصيةً وليس جريمة حرب ضد الصحافة. وفي الوقت نفسه، بررت الوكالة الفعل بتصريحات لمكتب نتنياهو، وأحالت الأمر إلى أنه قيد التحقيق، ليصبح للقاتل منصة للتبرير في أكثر من زاوية في الخبر.

تُقدِّم وكالة رويترز في خبرها عن قصف مستشفى ناصر نموذجًا آخر لكيفية ممارسة الإزاحة الخطابية، فتبدأ بتثبيت الواقعة الصادمة: "مقتل ما لا يقل عن 20 شخصًا بينهم خمسة صحافيين يعملون لدى رويترز وأسوشييتد برس والجزيرة وغيرها"، ثم تقدّم ضحاياها المباشرين بتوصيف تعاقدي يُقصي الانتماء المؤسسي: "المصوّر حسام المصري، متعاقد مع رويترز، قُتل قرب نقطة بثّ مباشر تديرها رويترز"، و"المصوّر حاتم خالد، متعاقد مع رويترز، أُصيب"، فيما تُدرج بقية الأسماء في صياغات موازية: مريم أبو دقة "عملت بتعاقد حر مع أسوشييتد برس"، ومحمد سلامة "عمل مع الجزيرة"، ومعاذ أبو طه "صحافي حر عمل مع عدة مؤسسات وبينها مساهمات عَرَضيّة لرويترز". هذه الاختيارات المعجمية (Contractor/Freelancer ) تعكس قيمة خطابية ومؤسساتية عالية؛ فهي تُنزاح بالتعريف من "صحافي رويترز/وكالتنا" إلى "عامل خارجي"، فتُخفَّف تلقائيًا تبعات المسؤولية المهنية والأخلاقية والعمالية على المؤسسة، وتؤطّر الجريمة بوصفها حادثًا مرتبطًا بعقود العمل، وليس اعتداءً ممنهجًا على حرية الصحافة وحياة الصحافيين.

توازيًا مع لغة رويترز التي لجأت إلى توصيفات تعاقدية للصحافيين، قدّمت إسرائيل خطابها الرسمي بلغة الاعتذار المموّه؛ فنقلت رويترز عن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قوله ما حرفيته: تأسف إسرائيل بشدة لما وصفه بـ"حادث مأساوي"، وتقدّر عمل الصحافيين والطاقم الطبي، لكنها تؤكد أن حربها مع حماس.

هنا تتحول جريمة موثقة إلى مجرد مأساة عرضية، تؤطَّر ضمن خطاب الحرب على حماس.

أما الجيش الإسرائيلي فقد أقر بالضربة، لكنه غلّف اعترافه بعبارات تقنية أيضًا ترجمتها أنّ جيش الاحتلال اعترف بتنفيذ الهجوم، لكنه أحاله إلى "تحقيق" داخلي لم تُعلن نتائجه بعد.

وجاءت الصياغة الأوضح في بيان رسمي للجيش نشرته رويترز: "الجيش الإسرائيلي يأسف لأي أذى قد يلحق بأشخاص غير ضالعين، ولا يستهدف الصحافيين بصفتهم هذه، ويعمل على تقليل الأذى للمدنيين قدر الإمكان مع الحفاظ على سلامة قواته". هذه اللغة تفتح باب الشكوك: فهي تعتذر فقط عن الأذى الذي يصيب "غير الضالعين"، بما يوحي ضمنًا أن بعض الضحايا قد يكونون ضالعين. كما أنها تضع المسؤولية في إطار "الضرر العرضي" مقابل "سلامة القوات"، لتعيد ترتيب الأولويات: حماية الجنود أولًا، ثم المدنيين إن أمكن.

هذا الخطاب يعكس استراتيجية إسرائيلية ثابتة: الاعتراف بالفعل مع نفي النية، والاعتذار عن الأذى وليس عن الجريمة، وربط كل استهداف بالسردية الكبرى وهي "الحرب مع حماس". هذا كله ينسجم تمامًا مع لغة الوكالات الغربية التي تتبنى الحياد المضلل، فتغيب صفة الجريمة ويُقدَّم القتل حادثًا جانبيًا في حرب غامضة.

حين وصفت وكالة أسوشييتد برس مريم أبو دقة بأنها Freelancer، واعتبرت رويترز أن حسام المصري وحاتم خالد مجرد Contractors، أي متعاقدين، بدا الأمر للوهلة الأولى تفصيلًا مهنيًا عاديًا. لكن قانونيًا، فإن هذه المفردات لا تغيّر شيئًا من حقيقة الوضع؛ فالصحافي في القانون الدولي الإنساني يُعامل على أنه مدني محمي بصرف النظر عن شكل عقده أو نوع ارتباطه بالمؤسسة الإعلامية.

المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف (1977) تنص بوضوح: "الصحافيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطيرة في مناطق النزاعات يُعتبرون أشخاصًا مدنيين، ويجب أن يتمتعوا بالحماية العامة الممنوحة للمدنيين". النص لا يضع أي شرط يتعلق بكون الصحافي موظفًا دائمًا، أو متعاقدًا، أو مستقلًا. كذلك، يؤكد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة على أن "تعمُّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية يُعد جريمة حرب". أي أن أي قصف يستهدف صحافيًا في أثناء عمله الصحافي يدخل مباشرة في نطاق الجرائم الدولية، مهما كانت صفته الوظيفية. حتى قرار مجلس الأمن رقم 2222 (2015) يؤكد ذلك، إذ يشدد على أن الصحافيين والعاملين في الإعلام يجب أن يُعاملوا بوصفهم مدنيين وأن يتلقّوا الحماية بهذه الصفة. لم يقل القرار "الموظفون الرسميون"، بل "الصحافيون" عمومًا.

هنا يتضح البعد الأخطر لاستخدام مفردات مثل: Freelancer وContractor، فبينما لا توجد قيمة قانونية لها في منظومة الحماية الدولية، إلا أن هذا النوع من المصطلحات يستخدم في الخطاب الإعلامي لأهداف أخرى؛ فهي من جهة تمنح المؤسسات الإعلامية الكبرى نوعًا من التحصين القانوني المؤسسي والمدني، إذ ترفع عنها أي التزام تعاقدي مباشر تجاه الضحايا وعائلاتهم، فلا يحق لهؤلاء المطالبة بتعويضات أو مساءلة مهنية، كما لو كان الصحافي موظفًا دائمًا. ومن جهة ثانية، تُمارس وظيفة خطابية أمام الرأي العام، عبر تقديم الصحافيين المستهدفين عاملين هامشيين أو مؤقتين، ما يُضعف من وقع الجريمة ويحولها من استهداف منظم لحرية الصحافة إلى مأساة فردية معزولة.

بهذا، يصبح الاستخدام المتكرر لمفردات مثل Freelancer وContractor أداة مزدوجة: حماية مؤسساتية من المساءلة، وتطبيعا تدريجيا للعنف ضد الصحافيين عبر لغة تبدو محايدة، لكنها في جوهرها تُضعف الضحية وتُغيب الفاعل.

هذا التواطؤ لم يمرّ من دون ردود فعل من داخل المؤسسات الإعلامية نفسها. فقد أعلنت المصوّرة الكندية فاليري زينك استقالتها من وكالة رويترز بعد ثماني سنوات من العمل معها، في خطوة وصفتها بأنها نتيجة "خيانة للصحافيين" ارتكبتها المؤسسة التي كانت جزءًا منها. كتبت زينك على منصّة إكس:  أصبح من المستحيل بالنسبة إلي أن أواصل علاقتي مع رويترز نظرًا إلى دورها في تبرير الاغتيال المنهجي لـ245 صحافيًا في غزة وتمكينه.

لم تكتفِ زينك بالانسحاب الصامت، بل كشفت أن الإعلام الغربي لم يعد مجرد ناقل خبر، بل أداة دعائية تشرعن القتل وتمنحه غطاءً مهنيًا. فقد انتقدت بشدّة نشر رويترز مزاعم إسرائيلية عن الصحافي أنس الشريف بعد مقتله، معتبرة أن الوكالة "تضفي الشرعية على الأكاذيب الإسرائيلية وتعيد تدويرها بلا تحقق"، وهو ما وصفته بأنه تواطؤ مباشر في استهداف الصحافيين. وذهبت أبعد من ذلك حين قالت: "لم يعد بإمكاني أن أضع بطاقة الصحافة هذه دون أن أشعر بخزي وحزن عميقين".

وربطت استقالتها مباشرة بمجزرة مستشفى ناصر الأخيرة، مؤكدة أن ما حدث كان مثالًا واضحًا لما يُعرف بـ"الضربة المزدوجة، إذ تقصف إسرائيل هدفًا مدنيًا ثم تنتظر وصول المسعفين والصحافيين لتعود وتقصف من جديد". بالنسبة إليها، فإن "الغرب الإعلامي شريك مباشر في خلق الظروف التي تسمح بهذه الجرائم"، لأن وكالات مثل رويترز، وصحف مثل نيويورك تايمز "تحولت إلى ناقل لبروباغندا إسرائيلية، تُطهّر جرائم الحرب، وتُجرّد الضحايا من إنسانيتهم، وتترك الصحافيين الفلسطينيين لمصيرهم".

لا يمكن قراءة استهداف الصحافيين والمسعفين في غزة بوصفها حدثًا عابرًا أو خطأ مأساويًا، بل إنه جزء من بنية العنف التي تسعى إلى كسر أدوات الشهادة وتحييد من ينقلون الحقيقة. فبينما تتواطأ المؤسسات الإعلامية الكبرى عبر لغة تعاقدية باردة تنزع الضحايا من انتمائهم المهني، يتبنى الخطاب الإسرائيلي لغة اعتذارية تقنية تُحوّل الجريمة إلى حادث عرضي يخضع إلى التحقيق. وفي كلتا الحالتين، يُقصى جوهر القضية: قتل الصحافيين هو جريمة حرب مكتملة الأركان لا يُبطلها شكل العقد ولا يخففها بيان الأسف. أمام هذا النمط من التطبيع الخطابي والقانوني، تصبح مسؤولية إعادة تسمية الأشياء في موضعها، جريمة وليست حادثًا، استهدافا وليس خطأ، مسؤولية وليست صدفة، بل واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا لإعادة الاعتبار للضحايا ولمعنى الصحافة نفسها: فعل مقاومة ضد الشطب والإبادة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد