أنس الأسعد/ العربي الجديد
في تحقيقه لكتيّب نثري-شعري بعنوان "مولد النبي" لعلاء الدين بن مشرف المارديني، اختار الباحث الفلسطيني جمال باكير أن يكون غلاف عمله، والصادر في العام 2022، منمنمةً تُصوّر النبي محمد وليدًا تُحيط به هالة من نور، وهو محمول على يدي ملاكَين، فيما ترقد والدته آمنة على الأرض، وإلى جانبها تقف مرضعته حليمة السعدية على اليسار، وجدّه عبد المطلب على اليمين. تمثّل هذه المنمنمة نموذجًا معبّرًا عن الفن الإسلامي في توثيق المناسبات التاريخية والدينية، كما تكشف الاهتمام البصري المتأخّر بـ ولادة النبي، التي يُحتَفل بذكراها اليوم الخميس.
غير أن نسخة أقدم من هذه المنمنمة نفسها ترد في طبعة عربية من كتاب "جامع التواريخ" للمؤرخ الفارسي رشيد الدين الهمذاني، وهو الوزير القوي في الدولة الإلخانية المغولية. ووفقًا للباحث اللبناني في تاريخ الفنون محمود زيباوي، تعود هذه النسخة إلى مطالع القرن الرابع عشر الميلادي، ويُحتفظ فيها اليوم في مكتبة إدنبرة باسكتلندا، وتختلف هذه المنمنمة عن لاحقتها بوضوح، إذ يظهر فيها جمْع أكبر من النساء، مع ملامح مكشوفة لوجه النبي، ومن دون هالة النور أو الحجاب.
هل يمكن للفنون والآداب إعادة ربطنا بهذا التراث الحي؟
لم تجد ولادة النبي محمد، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، حضورَها البصري في الرسوم والمنمنمات حتى عصور متأخّرة، وذلك بسبب هيمنة ذهنية التحريم على هذا النوع من التعبير. ومع ذلك، فإن النماذج القليلة التي وصلتنا تكشف الكثير عن اهتمام بعض المجتمعات الإسلامية بتوثيق هذا الحدث، كما تتيح فهمًا أعمق لأساليب الاحتفال به، وتبرز كيف امتزج الفن بالتاريخ والدين. ورغم ذلك، يبقى إسهام العرب في هذا المجال محدودًا للغاية، بل شبه معدوم إذا ما قورن بما أنجزه الفُرس، أو مغول الهند، أو حتى العثمانيون. فهؤلاء خصّوا السيرة النبوية برسوم ومشاهد عديدة، لم تقتصر على المولد فقط، بل شملت محطات أخرى من حياة الرسول، ونقلوها من كتب السيرة إلى الصورة، ومن أبرز هذه النماذج كتاب "جامع سير النبي" الذي أُنجز في عهد السلطان مراد الثالث في أواخر القرن السادس عشر.
طابع شعبي صوفي
بالانتقال من إطار الصورة إلى المجتمع، يكتسب المولد النبوي حيويته من كونه مركزًا لـ"شبكة موالد"، إذا جاز التعبير، تضمّ الأولياء والمتصوفة وآل البيت وغيرهم، وتشكّل مجتمعة روزنامة متقلّبة تتغير بحسب الجغرافيا والأحكام الفقهية وظروف المجتمع الإسلامي. ففي مصر، تتجاوز الموالد كونها مناسبات دينية لتصبح ظواهر اجتماعية وثقافية حيوية، بما يعكس الطابع الشعبي والتصوف المحلي، اللذين تجلّيا في خلفيات بعض روايات نجيب محفوظ، كـ"الحرافيش"، أو لوحات جمال السجيني وحلمي التوني وطه القرني وغيرهم.
بطبيعة الحال، اجتذب هذا الاحتفال اهتمام الباحثين الغربيين الذين وثّقوه من منظور أنثروبولوجي وتاريخي. من بين هؤلاء نيكو كابتاين (Nico Kaptein)، الذي قدّم دراسة متخصصة صدرت عن "بريل" في تسعينيات القرن الماضي، مكرّسة بالكامل لتاريخ المولد النبوي، معتمدًا على المصادر التاريخية للفترة حتى القرن الثالث عشر الميلادي. أما ج. و. مكفرسون، فرصد في كتابه "الموالد في مصر" أكثر من 126 مولدًا إسلاميًا وقبطيًا، مزوّدًا بخرائط وجداول وقاموس للمصطلحات. توضح هذه النماذج كيف حاول الغرب استيعاب الطابع الشعبي والثقافي للمولد المصري، وإن جاءت بعض طروحاته متأثرة بمنظور استشراقي.
حضور كالغياب
على الرغم من استمرار بعض الطقوس الشعبية المرتبطة بالموالد، وعلى رأسها المولد النبوي، فإن حضورها في الثقافة العربية المعاصرة قد تراجع بشكل واضح، سواء في الأدب أو المسرح أو الفنون البصرية. الأدب الحديث، مقارنة بما عرفه الشعراء المتصوفة وصولًا إلى أحمد شوقي، غير قادر على التفاعل مع هذه المناسبات، لعُمق التحولات الحداثية التي أصابته، فتبدو الإنتاجات الشعرية التي تتمثّل بقصيدة "البردة"، مثلًا، وتنظم على منوالها، ذات جمهور محدود ومعزول جدًا، وبعيدة عن دائرة القراءة العامة. كذلك هو الحال مع الفن، فالمنمنمات التقليدية التي ربطها الشاعر والناقد شاكر لعيبي في كتابه "تصاوير الإمام علي" بجذور الفن الفطري والساذج، بدأت تفقد حضورَها القوي في الإبداع المعاصر.
هذا الواقع يثير سؤالًا نقديًّا مهمًّا: ماذا أنتج الفكر العربي والأدب المعاصر، أو حتى الأكاديميات العربية، عن الموالد والمواسم الشعبية المرتبطة بها؟ في ظل غياب الدراسات المحلية الكافية، نجد أنفسنا معتمدين بالضرورة على الدراسات الأجنبية، مما يكشف عن فجوة حقيقية بين الاحتفال الشعبي الغني ومظاهر التعبير الثقافي المعاصر المحدودة. وضعٌ يدعو إلى إعادة النظر في الدور الذي يمكن أن تلعبه الفنون والآداب في إعادة ربط الجمهور بهذا التراث.