اوراق خاصة

الانتماء الوطني وأزمة الهوية.. المقاومة بين الضرورة والجدل

post-img

فادي الحاج حسن / كاتب لبناني

في العالم العربي، يظل سؤال الهوية الوطنية من أكثر الأسئلة إشكالية وإلحاحًا، خصوصًا في ظل التداخلات التاريخية بين الاستعمار والصراعات الداخلية والتحديات الأمنية المرتبطة بالقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. من هنا يصبح الانتماء الوطني ليس مجرد شعور وجداني أو حالٍ عاطفية، هو معركة سياسية – اجتماعية متشابكة، تحددها البنى التاريخية والاختيارات الاستراتيجية التي تصوغ مستقبل الدول والشعوب.

لقد حاولت النظريات الكلاسيكية، في علم الاجتماع السياسي، مثل طرح "إميل دوركهايم" عن التضامن الاجتماعي، أن تشرح كيف تتحول الهوية الفردية إلى هوية جمعية، تُبنى على وحدة القيم والطقوس والذاكرة المشتركة. بينما أشار "بندكت أندرسون" إلى أن الأمة ليست معطىً طبيعيًا، هي "مجتمع متخيَّل" يتبلور عبر اللغة والرموز والمؤسسات. هذه المقاربات تساعدنا في فهم لماذا يصبح الانتماء الوطني في البلدان العربية، ومنها لبنان، في أزمة دائمة، وكيف تتحول المقاومة إلى مساحة لتجديد الهوية؟

أزمة الهوية في العالم العربي

منذ تقسيم الوطن العربي إلى دويلات؛ عانت الدول العربية إشكالية مزدوجة في بناء الدولة الحديثة من جهة، وصياغة هوية جامعة من جهة أخرى. ولم تتمكّن معظم هذه الدول من تحقيق توازن بين الانتماءات الطائفية القبلية أو الإثنية، وبين الانتماء الوطني العام. هنا، برز ما يسميه علماء الاجتماع بـ"أزمة الهوية"، حين يضعف الرابط الوطني أمام الانتماءات الجزئية.

لبنان كان، وما يزال، نموذجًا صارخًا لهذه الأزمة. إذ إن الدولة التي تشكّلت على أساس تسويات طائفية هشّة لم تنجح في إنتاج مفهوم وطني جامع. وهكذا؛ بقيت الهويات الطائفية والعائلية أقوى من الهوية الوطنية. هذه الانقسامات جعلت كل مشروع سياسي، بما فيه مشروع المقاومة، موضع جدل وصراع في شرعيته وحدوده.

المقاومة حقلٌ لإعادة إنتاج الهوية

حين اندلعت المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين، برزت المقاومة بوصفها ممارسة سياسية – عسكرية؛ لكنها أيضًا عملية إعادة تعريف للانتماء الوطني. إذ هي لم تكن فقط مواجهة مسلحة، ايضًا إعادة صياغة للهوية الجماعية في وجه الآخر الغازي المحتل الغاصب.

في غزة، كما في جنوب لبنان، أعادت المقاومة إحياء المعنى العميق للانتماء: الانتماء إلى الأرض، إلى التاريخ، وإلى الذاكرة الجماعية للشهداء والمقاومين. هنا؛ تتجسد مقولة الفليسوف الماركسي الثوري "أنطونيو غرامشي" عن "الهيمنة الثقافية"، حين لا يكفي الانتصار العسكري وحده، إذ لا بدّ من بناء سردية وطنية تقنع الجماهير بأن المقاومة ليست خيارًا تكتيكيًا؛ بل قدرًا تاريخيًا.

"لبنان المقاومة" بين الشرعية الوطنية والانقسام الهوياتي

في السياق اللبناني، اتخذت المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بعدًا مركبًا. إذ من جهة، اكتسبت شرعية واسعة كونها حمت الأرض في مواجهة الاحتلال، وأعادت القيمة للسيادة الوطنية بعد تحرير الجنوب في العام 2000. لكن من جهة أخرى، تداخلت هذه الشرعية مع أزمة الهوية اللبنانية؛ ففي بلد متعدد الطوائف، لم يكن الانتماء الوطني موحدًا. هنا، تبرز إشكالية "الولاءات المتعددة"، في ما يُسمّي بعض علماء السياسة – مثل أرنست غيلنر – هذه الظاهرة بـ"التشظي الهوياتي". في ظل هذا التشظي، تصبح المقاومة نفسها جزءًا من الانقسام: هل هي مشروع وطني جامع، أم مشروع فئوي يعكس هوية طائفية محددة؟ هذا السؤال ما يزال يطارد الخطاب السياسي اللبناني حتى اليوم.

"غزة" هوية تحت الحصار

على النقيض من لبنان، برزت المقاومة في غزة إطارًا جامعًا على الرغم من الانقسامات الداخلية بين الفصائل. إذ إن الحصار والاحتلال المستمر خلقا هوية وطنية جامعة، ترتكز على البقاء والصمود؛ وهنا يظهر أثر ما يسميه علماء الاجتماع بـ"التعبئة من تحت"، حيث يولّد الضغط الخارجي وحدة داخلية تتجاوز الانقسامات. إلا أن هذه الوحدة ليست مطلقة؛ فالانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة أعاد طرح إشكالية الهوية الوطنية الفلسطينية: هل هي هوية جامعة تقودها حركة تحرر واحدة، أم هويات متباينة ترتبط بمصالح وسياقات جغرافية وسياسية مختلفة؟

المقاومة وأخلاقيات الانتماء

المقاومة، سواء في لبنان أم غزة، لم تكن مجرد فعل عسكري، هي تعبير عن أخلاقيات الانتماء، وتُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة من خلال مفاهيم الإيثار والتضحية. في هذا الصدد؛ يمكن استحضار أطروحات "أكسل هونيث" عن "الاعتراف"، حين لا يشعر الفرد بانتماء حقيقي إلا حين يُعترف بقيمته عبر المشاركة في مشروع جماعي ذي معنى. المقاومة، هنا، توفر للفرد إطارًا للاعتراف والكرامة، في مقابل تهميشه أو تشظيه في أنظمة سياسية ضعيفة.  لكن هذه الأخلاقيات تواجه تحديًا أمام النزعات الفردية أو الولاءات الخارجية. في السياق العربي، عمومًا، شكّلت التدخلات الدولية والإقليمية عاملًا مفاقمًا لأزمة الهوية الوطنية.. فكلما ضعف الانتماء الداخلي أصبح المجال مفتوحًا أمام ولاءات بديلة: طائفية، مذهبية، أو حتى تبعية لقوى خارجية.

البعد القانوني والسياسي

من الناحية القانونية، تستند المقاومة إلى حق أصيل في ميثاق الأمم المتحدة يشرّع الدفاع عن النفس في حال الاحتلال أو العدوان. غير أن هذا الإطار القانوني لا يحسم الجدل السياسي الداخلي. في لبنان، مثلًا، يبقى النقاش مفتوحًا: هل السلاح المقاوم يخدم المصلحة الوطنية العامة أم يضعف الدولة ويكرس ازدواجية السلطة؟ هذه الإشكالية تعكس في جوهرها أزمة هوية: غياب الإجماع على تعريف الوطن نفسه، وتاليًا غياب التوافق على من يملك شرعية تمثيله والدفاع عنه.

المقاومة كونها هوية بديلة

ما يميز التجربة اللبنانية والفلسطينية أن المقاومة لم تكن مجرد وسيلة، لقد تحولت إلى هوية بحد ذاتها. بالنسبة إلى البعض، المقاومة هي "الوطن البديل" حين تفشل الدولة في توفير الأمن والكرامة. لكنها بالنسبة إلى البعض الآخر هي تهديد لسيادة الدولة ولإمكان بناء هوية وطنية جامعة ..! هذا التناقض يكشف ما يسميه "تشارلز تيلي" "السياسات الصراعية"، حين تُبنى الهويات الجماعية خلال الصراع وليس التوافق.

النتائج والتداعيات

  1. -  في العالم العربي عمومًا، ما تزال أزمة الهوية الوطنية عائقًا أمام توحيد الموقف تجاه القضايا الكبرى مثل فلسطين.
  2. - في لبنان، تحولت المقاومة إلى رافعة للسيادة؛ لكنها أيضًا محور انقسام بسبب غياب هوية وطنية جامعة.
  3. - في غزة، صاغت المقاومة إطارًا وحدويًا نسبيًا، لكنه مهدد بالانقسامات السياسية الداخلية.
  4. - الانتماء الوطني في هذه السياقات ليس ثابتًا، هي عملية تاريخية وسياسية متجددة، تُبنى في كل مرة يواجه فيها الشعب تهديدًا خارجيًا أو أزمة داخلية.

تكشف أزمة الهوية، في العالم العربي، أن الانتماء الوطني ليس معطًى بديهيًا، هو مشروع يُعاد إنتاجه باستمرار. في لبنان، تظل المقاومة مشروعة وضرورية. وفي غزة، أثبتت المقاومة قدرتها على صوغ هوية متماسكة على الرغم من الحصار، لكنها مهددة بالانقسام الداخلي.

ما نستخلصه هو أن المقاومة تبقى الأساس في تعزيز الانتماء الوطني، من ناحية الارتباط الجمعي. وقد لا تكفي وحدها لتأسيس هوية وطنية مستقرة. إذ هي تحتاج إلى مشروع سياسي شامل يعيد بناء الدولة على أساس المواطنة، ويوازن بين الانتماءات الجزئية والهوية الجامعة، وأيضًا، التنزه عن الغايات والمصالح الفردية، عندها يمكن أن تتحول المقاومة من فعل ظرفي إلى ركيزة دائمة لبناء وطن حر ومستقر. بهذا المعنى، تتحول المقاومة من سلاح في وجه الاحتلال إلى مختبر لإعادة تعريف الانتماء الوطني، في عالم عربي، يبحث عن ذاته بين أزماته وتناقضاته.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد