منذر جوابرة/ العربي الجديد
كادت أعمال خليل رعد أن تُمسح من الذاكرة بعد الاستيلاء على أرشيفه، في محترفه الخاص في شارع يافا بالقدس الذي افتتح في عام 1895، لولا صديقه الإيطالي وتحت غطاء الليل الذي استطاع استرداد جزء من صوره التي نهبها جنود الاحتلال سنة 1948.
خُزِّن أرشيف رعد في مبنى مقدسي آخر، كما تشير الباحثة روني سيلع، في مقالتها "المقاومة الصامدة: الدراسات الاستعمارية التوراتية والأثرية والإثنوغرافية. التخيّلات في أعمال خليل رعد 1891-1948"، المنشورة العام الماضي.
بعد رحيل المصور الفوتوغرافي الفلسطيني في العام 1957، انتقلت أعماله إلى ابنته روز التي تبرّعت بثلاثة آلاف صورة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية في العام 2005، والتي قامت على أرشفتها وفهرستها وإعادة إطلاقها للجمهور والمهتمين، وآخرها في معرض "ليست مجرّد ذاكرة: خليل رعد والعين المعاصرة"، الذي افتتح الخميس الماضي في المتحف الفلسطيني ببيرزيت.
جمع الواقعية بالحساسية الفنية، والبورتريه بالمشهد الطبيعي
يشير الباحث سليم تماري في دراسته "التصوير الحربي عند خليل رعد: الحداثة العثمانية والنظرة التوراتية" (2013)، إلى توثيق رعد للشخصيات السياسية والاجتماعية، وتنوع مواضيعه، والأحداث العسكرية، وقدرته على معالجة وتقديم العديد من القضايا والمشاهد في فلسطين، بحيث تصبح أعماله تأريخًا ومصدرًا بصريًا استثنائيًا، سجّل خلال ستة عقود حياة مجتمع على حافة التحوّلات المصيرية.
تعدّ أعماله من أقدم وأهم التوثيقات الفوتوغرافية الفلسطينية لكلّ تفاصيل الحياة في أواخر العهد العثماني والانتداب البريطاني، في الوقت الذي يتوزع فيه أرشيفه في متحف فلسطين المحلتة (إسرائيل) وفي بريطانيا. وكان رعد المولود عام 1854 قد بدأ تعلم التصوير في السادسة عشرة من عمره في استوديو المصور الأرمني غرابيد كريكوريان، قبل أن يقرّر استكمال دراسة التصوير في سويسرا، ثم يعمل مصورًا رسميًا للدولة العثمانية، وكذلك مصورًا رسميًا للانتداب البريطاني، إلى جانب ممارسته التصوير المستقل.
يوضح تماري أن عدسته كانت حاضرة في وسط الأحداث السياسية والعسكرية، بصفته مراسلًا للجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، إذ وثّق القادة والمصانع الحربية في مختلف المدن الفلسطينية من بئر السبع وحتى مدينة نابلس، وكان شاهدًا على انتفاضات الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني، فقد صوّر المظاهرات ونقاط التفتيش، والثورات الشعبية.
تصحيحًا للتاريخ البصري للفلسطينيين، يكمن جزء من قوة هذا التصحيح في قدرة صور رعد على خلق صلة إنسانية حميمة مع موضوعاتها، كما أشار الباحث عصام نصار، في كتابه "لقطات مغايرة، 1850-1948: التصوير المحلي المبكّر في فلسطين" (2005)، وبتناول أعماله يتضح أنها تدفع المشاهد للتأمل العاطفي لصوره وتخلق ألفة معها، بحيث تصبح التبادلية بين الموضوع والمشاهد في سياق الأرشفة التي تنقل شهادات إنسانية تقاوم الصمت والنسيان.
بوصفه مؤرشفًا للحياة اليومية قدم صورًا نادرة لمختلف شرائح المجتمع، إذ تميّزت أعماله بتنوعها وغناها، وشملت توثيق الحياة الاجتماعية والزراعية والدينية، من بينها صورة الأميرالاي روشن بيك وجمال باشا وعز الدين القسام، وكذلك مصانع الصابون، وقبة الصخرة، وكنيسة المهد، والأعياد المسيحية كونها ظاهرة اجتماعية شارك فيها المجتمع بالفلسطيني باختلاف معتقداته.
تميّزت تقنيات رعد باستخدامه المبكر للألواح الزجاجية الكبيرة، التي مكّنته من إنتاج صور تفصيلية ودقيقة ذات جودة عالية، جمع فيها بين الواقعية الميدانية والحساسية الفنية، فمزج البورتريه بالمشهد الطبيعي والسياسي، دفعت لتميّز خطه الفني عبر تحويل هذه الصور من صور توثيقية فقط إلى انعكاس للمكان والحياة، غلب عليها البُعد الدرامي العاطفي، خاصة للشخصيات التي صورها داخل الاستوديو. وقد لوّن رعد بعض الصور النادرة، لا سيّما التي التقطت للمناظر الطبيعية، إذ كانت أخته تشاركه في تلوينها بالألوان المائية.
في المقابل يعمل الفنان آدم روحانا في المعرض المقام حاليًا، ليكمل الموضوع من جانبه البصري، عبر عمله التركيبي الذي يحمل الاسم ذاته، مانحًا "الإذن" شكلًا ملموسًا. يستعيد روحانا تقنيات المصور خليل رعد، الذي وثّق الحياة الفلسطينية بكل حيويتها قبل النكبة، محولًا الأرشيف من ذاكرة ثابتة في الماضي إلى رواية معاصرة نابضة بالحياة، ويساعده على هذا المزج المركب بين الطبقات الزمانية، من خلال محاكاته لتقنيات التصوير ذات المقاس الكبير وتوجيهها لتصوير بورتريهات لفلسطين اليوم، يخلق روحانا حوارًا تاريخيًا مباشرًا، يلملم من خلاله الجغرافيا المجزّأة والسرديات المبعثرة.
بهذا، يتعامل روحانا إبداعيًا مع "توتر الأرشيف" الذي كشف عنه إدوارد سعيد، عبر البناء المستمر لنفس الرواية التي تتصاعد وتتحدث زمنيًا، محولًا الأرشيف من سجل سلبي للهزيمة والفقدان إلى نموذج محفز في صراع الإرادة والوجود، وهو ما يضع المشاهد في صلب الصراع، شاهدًا على استمرار النكبة واستمرار المقاومة في آن. إنه يضعف المقولة الصهيونية "أنّ وجود إسرائيل أهم من صورتها" بإثباته أنّ الصورة، عندما تكون جزءًا من رواية حقيقية متصلة الجذور، يمكن أن تكون سلاحًا وجوديًا في معركة الرواية، التي ما زالت تنتج مقاومة ومعرفة وصورًا وفنًّا.