مولود بن زادي/ القدس العربي
أثارت حربُ غزة – الأطول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – موجةً من الاحتجاجات في أنحاء المعمورة: مسيرات عارمة تملأ شوارع العواصم العالمية من نيويورك إلى سيدني، ومظاهرات مؤيدة لفلسطين تجتاح الجامعات الأمريكية، وأساطيل مساعدات تجوب البحر الأبيض المتوسط، وقوافل برية محملة بمساعدات غذائية تنطلق من بلدان المغرب العربي لكسر الحصار على غزّة.
ولم تسلم "إسرائيل" نفسها من عاصفة الاحتجاجات التي راحت تثير اهتمام الرأي العام وتتصدر واجهات الصحف العالمية، كعنوان «الإسرائيليون يحتجون بصور أطفال غزة القتلى» في صحيفة «هآرتس»، أو «ناجون من الهولوكوست يتجمعون في يوم ذكرى الهولوكوست منددين بالمجاعة والمعاناة الفلسطينية» في صحيفة «الغارديان» البريطانية. وأخذ الاحتجاج طابعا نادرا باستخدام اللغة سلاحا للمقاومة، ومقاطعة المواطنين العرب اللغة العبرية، ما يدعونا إلى التساؤل: ما تأثير الصراع في اللغة التي يستخدمها الفرد نظاما للتواصل في المجتمع؟ وكيف تكون اللغة أداةً للمقاومة؟ وما عواقب رفض اللغة السائدة في المجتمع؟ وقبل الخوض في ذلك، يُستحسن ربما النظر في التأثير المتبادل للغتين الجاريتين العربية والعبرية عبر الزمان.
تفاعل لغوي عبر التاريخ
اللغات كالبشر؛ لا يمكنها الحياة بجوار غيرها من دون التأثير فيها والتأثر بها. ينطبق هذا المبدأ تماما على علاقة اللغتين الجارتين العبرية والعربية، وهو ما أكده الباحث محمد عمارة في «مجلة اللغويات الاجتماعية العربية»: «العربية والعبرية لغتان شقيقتان تنتميان إلى عائلة اللغات السامية، والاتصال بينهما ضارب بجذوره في أعماق التاريخ؛ فقد بدأ ذلك في العصور الوسطى في شبه الجزيرة العربية، وتواصل في الأندلس التي حكمها المسلمون، ويستمر اليوم في شمال افريقيا وفي مختلف أنحاء الشرق الأوسط». إنّه تاريخ طويل من التواصل يتبيّن بجلاء في التبادل اللغوي، الذي شهدته اللغتان في العصر الحديث. فقد أدرجت العبرية الإسرائيلية خلال فترة نهضتها العديد من الكلمات العربية الفلسطينية لسدّ الثغرات المعجمية، مستمدة مصطلحات يومية مثل «فنجان» (فنجان قهوة)، و»كوفية/كفية» (حجاب)، و»يلّا» (هيا)، و»شنتة» (حقيبة)، و»شكرا» (كلمة شكر).
في المقابل، استوعبت العربية الفلسطينية مصطلحات عبرية مرتبطة بالمؤسسات الحديثة، بما في ذلك «البجروت» (امتحانات الثانوية العامة)، و»الرمزور» (إشارة المرور)، و»المسلول» (المسار الأكاديمي)، و»شوفِت» (غرامة أو مخالفة)، و»تيك» (ملف أو قضية قانونية)». تُظهر هذه الاقتباسات المتبادلة، إلى جانب المصطلحات العامية والتعابير المشتركة، كيف يستمر التأثير المتبادل للعبرية والعربية الفلسطينية، على الرغم من التوترات السياسية بين الناطقين بهما، ويُعد تفاعلهما اللغوي شاهدا على الصلة الوثيقة الدائمة بين هاتين اللغتين الشقيقتين.
التشبث باللغة سلاح من أسلحة المقاومة
لكنّ هذه العلاقة تأثّرت بالحرب المتقدة في غزة. وفي هذه الحرب الطويلة، لم تعد المعركة تُخاض في الميدان فحسب، بل امتدت لتشمل حروف الكلمات ولغة الحديث. فقد أصبحت اللغة العربية لسانا للمقاومة، ودرعا حاميا للهوية، ورفضا صامتا لكل محاولات طمس الهوية وتصفية القضية. في تقرير لها بعنوان «إنه شكل من أشكال المقاطعة: لماذا يتخلى الفلسطينيون في إسرائيل عن العبرية في حياتهم اليومية؟»، كشفت الكاتبة نغم زبيدات من صحيفة «هآرتس» تحولا لافتا في سلوك العديد من الفلسطينيين داخل إسرائيل، الذين فضّلوا التخلي عن العبرية في حياتهم اليومية، رغم إتقانهم لها. كان لها مقابلة مع رشيد، وهو مهندس مدني يبلغ من العمر 28 عاما، وهو من الذين قرروا التخلّي عن العبرية. قال عن ذلك: «شرعت في مقاطعة العبرية قبل ثماني سنوات. أعتبر ذلك شكلًا من أشكال المقاطعة. لا نحتاج بالضرورة إلى حرب في غزة، أو ضم الضفة الغربية لكي نعي أهمية الحفاظ على هويتنا ولغتنا».
أما بالنسبة لدِيما المهندسة الشابة ذات الخمسة والعشرين ربيعا، فلا يجوز استخدام العبرية إلاّ عند الضرورة: «لست مستعدة لاستخدام العبرية إلا إذا اقتضى الأمر ذلك حقا، لا أستخدمها في اللقاءات ولا مع الأصدقاء». وأكدت ديما أنّ التحدث بالعربية في الأماكن الفلسطينية صِنفٌ من أصناف المقاومة الثقافية. وامتدت المقاطعة إلى حقول متعددة، بما في ذلك الخدمات التجارية. فقد قال صاحب أحد المحلات: «لا أتحدث الآن إلا العربية، حتى عندما لا يفهم الزبائن، لأنني أريدهم أن يروا من أنا». ولم تسلم من المقاطعة المرافق الدراسية، حيث قال أحد الطلاب الجامعيين: «كنا نتحدث العبرية في الحرم الجامعي دون تفكير، والآن أصبحنا حذرين. يبدو الأمر خطيرا».
الحفاظ على الهوية الثقافية العربية
ولا يستخدم الفلسطينيون اللغة العربية أداة للمقاطعة والمقاومة ورفض الحرب والاحتلال فحسب، بل أيضا وسيلة لصون هويتهم الثقافية وتراثهم الوطني. فمثلما ذكرت صحيفة «هآرتس»، فإن استخدام العبرية بين الفلسطينيين يثير في كثير من الأحيان مخاوف تتعلق بالهوية والحفاظ على الثقافة، إذ يرى كثير منهم أن التبديل اللغوي، المتمثل في التناوب بين اللغتين، وإدخال مفردات عبرية في الحديث العربي، تهديدٌ للهوية الفلسطينية. وقد دفع ذلك مؤيدي المقاطعة إلى تجنب استخدام مصطلحات عبرية شائعة مثل «سابابا» (رائع) عمدًا، رغم انتشارها الواسع في المحادثات اليومية، إيمانا بأن هذه المفردات تُضعف إرثهم اللغوي. وبدلا من ذلك، يسعون للحفاظ على اللغة العربية وضمان حضورها القوي في حياتهم اليومية. وصار كثير من هؤلاء يفضلون التبديل بين العربية والإنكليزية، بدلا من دمج التعبيرات العبرية، معتبرين أن الإنكليزية أكثر حيادا وأقل ثقلا سياسيا أو تهديدا لهويتهم الثقافية. وأكدت الصحيفة أن التحدث بالعربية حصريا، في المنازل، ومع الأصدقاء، وفي الفضاءات العامة الفلسطينية، بات يُمارَس بوصفه فعلا واعيا للتأكيد على الهوية الثقافية ومقاومة الاندماج والذوبان.
الثمن الاقتصادي لمقاطعة اللغة
ليس من شك في أنَّ إصرار الفلسطينيين على تفضيل اللغة العربية على العبرية شكل من أشكال المقاومة الثقافية، غير أن لهذا الخيار ثمنا باهظا، إذ يترتب عليه في كثير من الأحيان تبعات شخصية ومهنية جسيمة. ففي المجتمع الإسرائيلي الذي تهيمن عليه العبرية، تشكّل محدودية إتقان هذه اللغة عقبة كبرى، خاصة في مجالات التوظيف والتعاملات الإدارية، تتجلى ملامح هذه الأزمة بشكل خاص في القدس الشرقية، حيث يلتحق العديد من الطلاب الفلسطينيين بمدارس تقدم تعليمًا محدودًا باللغة العبرية. ونتيجة لذلك، يجد الخريجون – حتى الحاصلون على شهادات أكاديمية – صعوبة في المنافسة في سوق العمل الذي تهيمن عليه اللغة العبرية في القدس الغربية. وينتهي المطاف بالعديد منهم إلى العمل في وظائف دون مستواهم التعليمي، مثل المقاهي وفي مجال النظافة، رغم ما اكتسبوه من مؤهلات بلغتهم العربية. وتجعل الفجوة اللغوية هذه، الفلسطينيين أكثر عُرضة للاستغلال. فكما روى أحد ناشطي المجتمع في القدس، تتعرض النساء الفلسطينيات للخداع لأنهن لا يُجِدن العبرية، ويرغمن على قبول وظائف زهيدة والعمل في ظروف قاسية، نظرًا لعجزهن عن فهم بنود عقد العمل فهمًا كاملًا.
بناء الثقة والوحدة من خلال اللغة
اللغة سلاح ذو حدين؛ فهي توحّد وتفرّق في آن واحد. ينطبق ذلك بامتياز على صراع الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي يستخدم فيه بعضهم مقاطعة اللغة وسيلة مقاومة، يسير آخرون في الاتجاه المعاكس، مستخدمين اللغة جسرا للتواصل والتعاون، واستعادة الثقة المفقودة وبناء علاقة وثيقة. في هذا السياق، أشارت صحيفة «الغارديان» في مقال بعنوان «نحن عائلة: الإسرائيليون يشاركون الفلسطينيين الحياة والأمل»، إلى مشروع لغوي تفاعلي في الضفة الغربية يرمي إلى مساعدة الإسرائيليين والفلسطينيين على بناء روابط قوية ومقاومة ضغوط الاحتلال وعنف المستوطنين. فقد بادرت مايا مارك بالتعاون مع مواطنتها الإسرائيلية نور زهور، التي تحسن العربية، بإطلاق دورة لتعليم اللغة العربية للناشطين الشباب الإسرائيليين. تتولى التدريس فيها ثماني نساء فلسطينيات محليات من بينهن، إيمان الهذالين، والتي هدمت السلطات الإسرائيلية منزلها في العام 2014.
عبّرت إيمان عن عمق العلاقة بينهن قائلة: «لا أبالغ إن قلت إن مايا بمثابة أختي». كان من نتائج المشروع أن عزز العلاقات بين الطلاب وأهالي قرى تواجه موجة متصاعدة من عنف المستوطنين، بعد أشهر قليلة من إطلاقه. من ميزات صاحبات هذا المشروع الرغبة في تعزيز الروابط بين الجماهير والعمل بكل تواضع، وهو ما أكدته مارك: «الناس هنا لا يحتاجون إلينا إطلاقا، لقد علمني وجودي أن أكون أكثر تواضعا تجاه النشاط ودوري». ومن ميزاتهن أيضا حسن النية والنظرة الإيجابية لتحقيق نتائج إيجابية، وهو ما حرصت على تأكيده المتطوعة ماتان برينر- كاديش: «إذا كان ما يدفعك هو الغضب والخجل، فسيكون ذلك مرهقا، لكن إذا انطلقت من موقف يقر بأن هذا يعود بالنفع علينا وعلى الآخرين، فسيكون ذلك منظورا مختلفا». من خلال الجمع بين تعلم اللغات والتضامن اليومي، تؤكد هذه المبادرات، أن الكلمات المشتركة والتواصل الإنساني قادران على الحد من الخوف وتوفير الحماية، وبناء جسور التفاهم والتعاون في ظل واقع معقد ومتشابك.
في الختام، تُظهر التجربة الفلسطينية أن اللغة فضاء رحب يتجاوز المعنى التقليدي بوصفها نظاما للتواصل مؤلفا من أصوات وكلمات وقواعد، لتغدو كونا متعدد الأبعاد، تسبح في فضائه أجرام من المعاني، قد يبدو بعضها متناقضا. ففي أزمنة الصراع، يمكن أن تتحول الكلماتُ إلى أداة للمقاطعة وسلاح للمقاومة، ودرع لحماية الهوية، ووسيلة لصون الذاكرة، وحصن في وجه محاولات الطمس والذوبان. وفي الوقت نفسه، قد تصبح جسرا للتقارب، ومرسى لبناء الثقة، وساحة لتعزيز الصداقة، وفضاء للتعاون وحسن الجوار.