اوراق مختارة

«طوفان» ما بعد الاستعمار: وعي جديد يُعيد تعريف  الصراع

post-img

حسين إبراهيم شمس الدين/ جريدة الأخبار

تعكس الشعارات الداعمة لفلسطين في الغرب تحوّلًا في الخطاب، إذ أعادت تعريف الصراع كتحرّر من الاستعمار الاستيطاني. من «من النهر إلى البحر» إلى الكوفية والراب، انتقلت القضية الفلسطينية من الهامش إلى مركز الخطاب الغربي، مجسّدة وعيًا ما بعد كولونياليًا يقوّض الهيمنة الثقافية الغربية

«أزيلوا الاستعمار عن فلسطين»

«فكّ الاستعمار ليس استعارة مجازية»

تُشكِّل الشعارات الداعمة للقضية الفلسطينية في الغرب تحولًا خطابيًا عميقًا يعكس تبنيًا واضحًا للرؤية ما بعد الاستعمارية. فهي لا تقدّم الصراع كنزاع حدودي تقليدي، بل تحوّله إلى إطار تحرري من الاستعمار الاستيطاني، مجسِّدةً الانتقال المعكوس للرواية الفلسطينية من الهامش إلى مركز الخطاب في الغرب نفسه.

يعبّر انتقال الأدب والنقد ما بعد الكولونيالي المتمثل ببعض الشعارات والفعاليات إلى الحاضنة الشعبية الغربية في الفترة الممتدة بعد طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى يومنا هذا، عن بروز بنية رمزية متجاوزة لإطار المفاهيم الاجتماعية والسياسية الاستعمارية التي حاولت عبرها الدول المستعمرة توريثها للدول المستعمَرة. نجد نحوًا من الانتقال الخطابي والشعاراتي إلى المسيرات الغربية، في ما يمكن تسميته هجرة ما بعد الكولونيالية للشارع الأوروبي بعد صعود القضية الفلسطينية لتأخذ مجالاتها هناك.

استعادة الجغرافيا

هذا الانزياح يتجلّى عبر آليات متعددة: استعادة الجغرافيا برفض التقسيم الاستعماري عبر شعارات مثل «من النهر إلى البحر»، واستبدال المصطلحات المُحايدة (كـ«النزاع») بمفاهيم نقدية حادة (كـ«التطهير العرقي» و«الاستعمار») التي تكشف طبيعة الهيمنة القائمة.

كما يبرز تبنّي رموز المقاومة الفلسطينية، كالكوفية، وتحويلها إلى أيقونات تضامنية عالمية، وإعادة توظيف فنون ذات جذور تحررية، مثل الراب، لنقل الرواية الفلسطينية بلغة ثقافية تصل إلى الجماهير الغربية. هذه المستويات مجتمعةً تشكل اختراقًا للبارادايم الاستعماري المهيمن، وتؤسس لخطاب مضاد يعيد تعريف الصراع من منظور المُستعمَر، ويجعل من القضية الفلسطينية رمزًا عالميًا للنضال ضد الاضطهاد والهيمنة.

فلسطين في قلب التحليل ما بعد الكولونيالي

لم يكن هذا الأمر حديثًا بطبيعة الحال، بل كان وما يزال الصراع الأكاديمي في جعل القضية الفلسطينية تدخل في إطار التحليل ما بعد الكولونيالي مثار أخذ ورد، إذ نجد أن تصنيف الكيان الصهيوني ككيان استعماري وفقًا للأطر الذهنية لفكرة الاستعمار وما يتخلّله من عنصرية ونظرة دونية للمستعمَر حاضرًا في بعض الدراسات الأكاديمية والصحافية.

في المقابل، نجد بعض الكتاب والصحافيين مثل سيمون سباغ مونتيفيوري يكتب محذّرًا من رواج سردية ما بعد الاستعمار في النظرة إلى الصراع، كما ذكر في بعض مقالاته بعنوان «سردية ما بعد الاستعمار خطيرة وخاطئة» وأنّ هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر يذكّر بالهجمات المغولية من العصور الوسطى من أجل الذبح وأخذ الغنائم البشرية، ما يعكس الرؤية الاستعمارية العنصرية للشعوب من دون الأخذ في الحسبان سياقات الصراع بكليّته.

ليست حربًا... بل استعمار

كما شهدت بعض الشعارات التي رُفعت تحدّيًا لسرديات الاستعمار التي توصّف الواقع الجاري في فلسطين، حيث رفعت شعارات من قبيل: «ليست حربًا بل استعمار، ليس إخلاءً بل تطهير عرقي، ليست أزمة بل احتلال، ليست معقدة بل إبادة».

هذه القضية تعدّ من أدوات المواجهة في إطار ما بعد استعماري، إذ تُخرق الأعراف المفاهيمية التي يضعها المستعمر لتفسير الواقع. في المقابل تُصاغ أطر مفاهيمية أخرى خارج هذه الرؤية الحاكمة، وهذا أمر واضح في الشعارات، إذ تم رفض التوصيف الغربي الاستعماري لما يجري في فلسطين بكونه أزمة أو حربًا أو ما شاكل واستُبدل على أنه تطهير عرقي واستعمار.

أيضًا، يمثل ارتداء الكوفية في الفضاء الأوروبي تحديًا للرواية السائدة وإعادة تأطير السردية الفلسطينية، ويعيد تعريف الرموز الثقافية خارج الأطر الاستشراقية التي صُوِّر عبرها الشرق الأوسط، ويمثل نوعًا من التواصل الثقافي المعكوس وفقًا للرواية الاستعمارية، إذ تحولت الكوفية من رمز «غريب» أو «شرقي» في التمثيلات الغربية إلى رمز للتضامن العالمي.

الراب في الحلبة

من الأمور التي برزت في ما بعد فترة «طوفان الأقصى»، انتشار موسيقى وغناء الراب الداعم للقضية الفلسطينية، وهذا يمكن وضعه ضمن سياق الفعل التحرري ما بعد الكولونيالي للقضية الفلسطينة في الغرب. ويعدّ الراب اختصارًا لعبارة Rhythm And Poetry (الإيقاع والشعر)، وليد تجارب شبابية من أصول أفريقية، يعيشون في مجتمعات ضواحي المدن الداخلية التي تعاني من الفقر والعنصرية الممنهجة وقلة الفرص، بحيث لجأوا في مواجهة هذه الظروف الصعبة، إلى الموسيقى والشعر للتعبير عن مشاعرهم واستعادة هويتهم.

وبالتالي، فإن التضامن السياسي بين السود والفلسطينيين يُوصف غالبًا بأنه «نضال مشترك» ضد العنصرية والاستعمار والإمبريالية.

ختامًا، تجاوزت المقاومة الثقافية للقضية الفلسطينية الحدود الجغرافية والسياسية التقليدية، لتدخل بقوة في الوعي الجمعي الغربي. وهو ما يمكن ملاحظته عبر أدوات تحليلية مستمدة من نظرية ما بعد الاستعمار. لقد نجحت الشعارات والرموز والخطابات التي رافقت مسيرات التضامن مع فلسطين في الغرب بعد عام 2023 في إعادة تعريف الصراع ليس كنزاع عسكري أو سياسي فقط، بل كقضية تحرّر من الاستعمار الاستيطاني، متحديةً بذلك الروايات السائدة التي تروّجها المركزية الغربية.

لا يقتصر تأثير هذا الانزياح الخطابي في دعم القضية الفلسطينية فقط، بل يُمثل أيضًا تحديًا للهيمنة الثقافية الغربية وإعادة نظر في الذات الغربية نفسها.

بالتالي إن هجرة الخطاب ما بعد الكولونيالي إلى الشارع الغربي لم تكن مجرد موجة عابرة، بل كانت مؤشرًا على تحولات أعمق في الوعي السياسي والثقافي العالمي، وتؤكد أنّ قضية التحرر الفلسطيني ليست معزولة عن سياقها الإنساني الأوسع، بل هي جزء من نضال شامل ضد كل أشكال الهيمنة والاستعمار الجديد. وهنا تكمن قوة المقاومة الرمزية وقدرتها على إعادة تشكيل الواقع، بل وإعادة كتابة تاريخ الصراع من منظور المُستعمَر نفسه.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد