إبراهيم الأمين (الأخبار)
تمامًا كما يشتهي. مشهد استعراضي مكتمل الأركان: طائرات عسكرية ترافق طائرته الرئاسية، ومواكب فخمة تنقله من مكانٍ إلى آخر. قادة العالم يتقاطرون تباعًا، خاضعين وصامتين، ليصادقوا على ما ينطق به. وحده من بقي في رأسه شيء من عقل، كان يُظهر تبرّمه من مطوّلات دونالد ترامب في شرم الشيخ.
أمّا في القدس المحتلّة، فقد ردّ أعضاء "الكنيست" الجميل، وصفّقوا بأقصى ما أوتوا من حماسة، دون أن ينسوا بقيّة الطقوس التي تفرض عليهم الوقوف بين حينٍ وآخر لتحيّته على كلمات الحب التي ألقاها في حضن المجرم.
لم يكن أحد يتوقّع من دونالد ترامب أن يتطرّّق إلى ضحايا الحرب من الفلسطينيين. فالمشهد الذي قال إنه تابعه على الشاشات لم يتضمّن، على ما يبدو، أي صورة للأسرى الفلسطينيين الخارجين من سجون العدوّ مُثقلين بسنواتٍ من العزلة والتعذيب. وحين تحدّث عن "الحب الكبير" الذي شاهده خلال لقاء عائلات الأسرى الإسرائيليين بأبنائها، لم ينتبه إلى أن أبناء تلك العائلات أنفسهم، الذين يخدمون في جيش الاحتلال وسجونه، هم مَن حرموا عائلات الأسرى الفلسطينيين من أبسط تعبير عن فرحٍ قد يكون عابرًا، إذ لا ضمانة بأن لا يُعاد اعتقال أبنائهم مجدّدًا.
وطبعًا، لم يكن لترامب أن يسأل عن السبعين أو الثمانين ألفًا من أبناء غزّة الذين قُتلوا خلال العامين الماضيين، وبينهم أكثر من 15 ألف شهيد من دون أثر أو بقية.
يحقّ لـ"إسرائيل" أن تحتفي بأقوى حليفٍ لها، ويحقّ لبنيامين نتنياهو أن يزيّن الشوارع والمسارح. فهو، بطبيعة الحال، غير مستعدّ لأيّ أمرٍ قد يُضعف سطوته، بعدما قال وكرّر بأنّ أيّ اتفاقٍ تبرمه "إسرائيل" لا يتمّ إلا بفضل القوّة التي تُمهّد له. أمّا القوّة، كما يعرّفها ترامب، فهي تلك الكتلة النارية الهائلة التي تصنعها أميركا وتقدّمها ل"إسرائيل"، لتفعل بها ما تشاء.
وما أُعدّ لترامب بالأمس حمل شيئًا من التعويض للرجل، نتيجة عدم فوزه بجائزة نوبل، رغم أنه الرجل الأكثر بياضًا، وكان من المُفترض برجالات نوبل أن يرفعوا اسمه فوق أيّ اسم آخر. وما أزعجه لم يكن فقط عدم تقدّمه بين المرشحين، بل اختيار من يعتبرها أداة تافهة في يد استخباراته التي تعمل على تخريب فنزويلا.
كيف لقادة العرب أن يسألوا عن شهداء الإبادة وهم ابتسموا وصفّقوا لإهانات ترامب المتتالية لهم بينما كانت "إسرائيل" تقول له ولنا إن لا حياة لها من دون حروب؟
لنعد إلى شرم الشيخ، مع قليلٍ من نبش الذاكرة لمن يظنّ أنّ ما جرى في الأمس كان علامة فارقة في تاريخ الصراع مع "إسرائيل". فمنذ إطلاق عملية السلام المشؤومة عام 1992، استضافت مصر عشرات الاجتماعات التي عُقدت للبحث في مستقبل فلسطين. وشرم الشيخ تحديدًا، التي صارت رمزًا للسياحة العادية والسياسية على حدّ سواء، احتضنت أيضًا عددًا من القمم الخاصة بفلسطين.
فقد زارها بيل كلينتون مع شمعون بيريز، في ضيافة حسني مبارك وبحضور ياسر عرفات، وتكرّر الأمر مع أرييل شارون وإيهود باراك وهيلاري كلينتون وقادة آخرين من مختلف أنحاء العالم العربي. وفي كلّ مرة، كانت البيانات الختامية تتحدّث عن "الفرصة الاستثنائية" لصنع السلام الكبير في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لم يتحقّق شيء. ليس لأن الجانب العربي كان صعب المراس كما يحاول بعض قادته أن يروّجوا، بل لأن الاحتلال لا يزال قائمًا ويتوسّع. وطالما وُجد الاحتلال، وُجدت المقاومة، ولأن تجربة الثلاثين عامًا الأخيرة علّمت أبناء فلسطين أنّ الحق لا يُستعاد إلا بالسلاح ذاته، مهما بلغت الكلفة ومهما ازدادت التضحيات.
ما جرى في الأمس كان عرضًا لفصلٍ أقرّ خلاله قادة دول عربية وإسلامية بالنتيجة التي أعلنها دونالد ترامب: لقد فازت "إسرائيل" عليكم جميعًا. وما عاد أمامكم إلّا أن تأخذوا بالأمر وتعملوا على تثبيت النتيجة. فهيّا إلى العمل: انزعوا سلاح المقاومة في غزّة ولبنان، وتقدّموا معًا نحو عقد اتفاقات سلام مفتوح مع "إسرائيل".
عمليًا، وافق المشاركون في لقاء الأمس على السردية الأميركية لمآلات حرب الإبادة على غزّة. لم يرفع أحد منهم صوته عاليًا للإشارة إلى حجم الكارثة التي حلّت بالقطاع، ولم يُشر أحد إلى اسم واحد أو اثنين من الشهداء الرُّضَّع الذين وُلدوا ليشهدوا لساعات قليلة على الجريمة قبل أن يقتلهم الجفاف. ولم يجرؤ أيّ قائد عربي أو مسلم على تذكير ترامب بأن أعلى محكمة دولية اعتبرت بطله، نتنياهو، مجرم حرب. كما لم يجرؤ قادة أوروبا على تذكّر مئات التظاهرات التي اجتاحت شوارع لندن وباريس وروما ومدريد، مندّدة بالمجزرة المفتوحة. كان الجميع صامتين، شركاء في لحظة إسدال الستار عن فصل جديد من فصول المجزرة، التي ستظل مفتوحة ما دام في منطقتنا كيان يُسمّى "إسرائيل".
أما في لبنان، فقد أصاب الوجوم أركان الحكم الذين لا يعرفون سبب تغييبهم عن حضور المسرحية، ولا يفهمون أصلًا سبب تهميشهم. والله أعلم كيف ستكون التحليلات والقراءات لما أبداه ترامب من إعجاب بما تقوم به إدارة لبنان الجديدة، علمًا أنه ذكرها بكلمة واحدة فقط، لكنّه ضمّنها المهمّة الوحيدة المطلوبة: نزع سلاح المقاومة. وغدًا، عندما يسأل اللبنانيون الأجانب عن رأيهم بما جرى في شرم الشيخ، سيسمعون النصّ غير المُعلن للقمة، وفيه أن الاستسلام لإرادة أميركا يقتضي الأخذ بمطالب "إسرائيل"، وهو المدخل الإلزامي لأي بحث لاحق. وحتّى حديث الرئيس جوزيف عون عن مفاوضات غير مباشرة مع "إسرائيل" للتوّصل إلى تفاهم، لن يلقى آذانًا صاغية، لأن في "إسرائيل" من أقنع الأميركيين بأنه "لا أمل من سلطة لم ترفع السلاح في وجه إرهابيّي حزب الله".
المهمّ في كلّ ما جرى أنه فتح كُوّة في جدار العقم السياسي في منطقتنا. في بلادنا لن نشهد كثيرًا من التطورات، لكن ما سنشهده قريبًا هو عودة "إسرائيل" إلى سجالاتها الداخلية وصراعاتها من أجل إحكام القبضة على كتلة النار، استعدادًا لاستخدامها مجدّدًا في مكان ما من منطقتنا. وعندما يحدث هذا، لن نجد من يذكّر ترامب بوعده بأن "السلام قائم ومستمر"، بل سنسمع من يبرّر للعدو جرائمه الجديدة. لذا بات لزامًا علينا تذكير أنفسنا والآخرين بأن لا دواء لهذا الجنون سوى أمر واحد: التمسّك بالمقاومة ونقطة على السطر!