اوراق خاصة

القرارات غير الميثاقية وأثرها في الوحدة الوطنية اللبنانية

post-img

د. حسين شكر/ أستاذ جامعي في العلوم السياسية

تشير الفقرة "ي"، من مقدمة الدستور اللبناني المعدّل وفقًا لاتفاقية الطائف، إلى أنه:"لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". نص الفقرة واضح بإسقاط الشرعية عن أي سلطة تخّل بميثاق العيش المشترك، وذلك كون المشرّع الدستوري قد وعى طبيعة المشكلات التي قد تثيرها القرارات غير الميثاقية على السلم الأهلي والوحدة الوطنية. وتاليًا؛ منع الدستور اللبناني السلطة السياسية من اتخاذ أي قرار أو سنّ أي قانون يتعارض كلّيًا وتوجهات فئة طائفية معينة، لما له من أثر سلبي في الاستقرار الداخلي، وذلك نتيجة التجارب القاسية التي عاناها لبنان، وأدركها المجتمعون في الطائف.

حمل تاريخ لبنان السياسي، في طياته منذ الاستقلال إلى اليوم، العديد من القرارات غير الميثاقية التي أقرّتها أو تبنّتها السلطة السياسية، والتي كان لها أثرها السلبي المباشر في الوحدة الوطنية والسلم الأهلي:

التجربة الأولى

محاولة التفرّد بالقرار السياسي وتبنّي قرارات تتعارض وتوجهات فئة طائفية (المسلمون) بدأت مع الرئيس كميل شمعون الذي تبنّى مبدأ الرئيس الأميركي "دوايت أيزنهاور"، والمعروف "بمبدأ أيزنهاور" سنة ١٩٥٧، تعهّد بموجبه الرئيس الأميركي بتقديم الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي للدول المهددة بالشيوعية أو بالتدخلات الخارجية. وذلك في خطوة أراد من خلالها الرئيس شمعون مواجهة تنامي المد الناصري في الأوساط الإسلامية، فشكّل هذا القرار الذي تعارض وتوجهات الأكثرية الساحقة من القوى السياسية الإسلامية أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى الاقتتال الداخلي سنة ١٩٥٨، فكان المدخل إلى الحل بانتخاب الرئيس فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة رفعت الشعار الشهير "لا غالب ولا مغلوب".

التجربة الثانية

كانت مع مصادقة الرئيس شارل حلو على اتفاقية القاهرة التي وقّعت بين قيادة الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية بوساطة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، في سنة ١٩٦٩، والتي شرعنت الوجود لفلسطيني المسلّح ومنحت الفلسطينيين حق ممارسة العمل الفدائي ضد العدو الاسرائيلي انطلاقا من الأراضي اللبنانية في الجنوب. أدّت هذه الاتفاقية إلى انقسام عامودي طائفي بين القوى السياسية الإسلامية التي رحّبت بها، وبين القوى السياسية المسيحية التي وافقت عليها ضمنيًا في البداية وانقلبت عليها بعد أشهر، فشكّلت الأرضية الخصبة التي مهّدت لانفجار الحرب الأهلية في سنة ١٩٧٥.

التجربة الثالثة

كانت مع الرئيس أمين الجميل الذي وقُع اتفاقية ١٧ أيار في سنة ١٩٨٣ بدفع أميركي، على الرغم من معارضة الأكثرية الساحقة من القوى السياسية الإسلامية. هذا القرار أدّى إلى انتفاضة ٦ شباط (١٩٨٤)، قامت بها القوى السياسية الإسلامية وعلى رأسها حركة أمل والأحزاب اليسارية، ما أدخل البلاد في دورة عنف جديدة، ودفع الحكم إلى إلغاء الاتفاقية.

التجربة الرابعة

كانت بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، وحاول معالجة المشكلات التي كان يعانيها النظام السياسي بإدخال تعديلات جوهرية عليه؛ حوّلت نظام الحكم من فئوي إلى تشاركي بنقل السلطة الإجرائية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، والتشديد على تشكيل حكومات وفاق وطني كي لا يستأثر أي فريق بالسلطة، ويتخذ قرارات تتعارض وتوجهات أي فئة طائفية، خصوصا في القضايا المصيرية، كي لا يتعرض الاستقرار الداخلي إلى خضّات هو بالغنى عنها، وقد تؤدي إلى عودة الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين.

كما أشاد بيان اللجنة الثلاثية العربية العليا (راعية اتفاق الطائف) بدور المقاومة البطولية التي يقوم بها الشعب اللبناني في الجنوب ضد الاحتلال الاسرائيلي. وهذا يعني أن مقاومة العدو الإسرائيلي هي من المسلّمات في اتفاق الطائف. إلا أن التدخل الأميركي في مفاصل السياسة الداخلية اللبنانية، دفع رئيس الحكومة فؤاد السنيورة إلى إصدار قراره في ٥ أيار ٢٠٠٨ المتعلّق بإزالة شبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة، وذلك بدعم وتأييد أميركي، وفي ظل استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة وفقدانها للميثاقية، ما أدّى بالتالي إلى أحداث ٧ أيار ٢٠٠٨، وكان الحل مجددًا بتراجع الحكومة عن قرارها.

التجربة الخامسة

نرجو ألا تكتمل شروطها، تتمثّل بقرارات حكومة الرئيس نواف سلام، في ٥ و٧ آب ٢٠٢٥، بتبنّي ورقة المبعوث الأميركي توم باراك التي تتضمن المطالب الإسـ.ـراٮيلية، ومنها بحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية -المقصود منها سلاح المقاومة الذي أصبح من المسلّمات في اتفاق الطائف كما اشرنا أعلاه- وذلك بالطلب من الجيش اللبناني وضع خطة زمنية لتنفيذ المهمة على الرغم من عدم التزام "إسـ.ـراٮيل" بأي مما ورد في الورقة، وفي ظل رفض كامل وزراء الطائفية الشيعية للقرار وانسحابهم من الجلسة قبل التوقيع عليه، ما أفقد الجلسة ميثاقيتها في ظل غياب كامل ممثلي الطائفة عن جلسة الحكومة.

إن استمرار الحكومة في مساعيها لتنفيذ الورقة الأميركية المتعلقة بحصرية السلاح، سيؤدي بناءً على التجربة التاريخية إلى الصدام الداخلي، خصوصًا في ظل الانقسام الطائفي الحاد الذي يشهده لبنان والتفاف السواد الأعظم من أبناء الطائفية الشيعية، خلف قيادة الثنائي الوطني وعدم جاهزيتهم للبحث في مسألة السلاح في ظل الاعتداءات والاغتيالات الإسرائيلية اليومية.

حبّذا لو تتعظ السلطة السياسية من تجارب الماضي السحيق، وتقتنع أن الحكم في لبنان لا يمكن أن يكون بعزل مكوّن طائفي رئيس، وبتبّني قرارات متعارضة وتوجّهاته، خصوصا في القضايا المصيرية، وأن تعي أن التراجع عن القرار فضيلة؛ لأن المضي قدمًا يشكّل تهديدًا جوهريًا للسلم الأهلي وللأمن القومي اللبناني في ظل التوحّش الإسرائيلي والدعم الأميركي المطلق له. وحبّذا لو نفقه إلى أن التدخّل الأميركي، في قرارات السلطة السياسية، لم تجلب الا الانقسام وتهديد السلم الأهلي من أجل تحقيق المصالح والغايات الإسرائيلية.

 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد