إيهاب شوقي/ كاتب مصري
عندما تحتفل قمة شرم الشيخ بالرئيس الأمريكي بصفته صانعًا للسلام؛ على الرغم من اعترافه بقيادة حرب الإبادة وتسليح العدو في خطابه في الكنيست الصهيوني، فكلّ متون القمة ووثائقها لا بد وأن تكون مخادعة وتنطوي على فخاخ عملاً بقاعدة منطقية تفيد بأنّ "العنوان الكاذب تتبعه متون كاذبة".
بناء على ذلك؛ فإنّ اجتماع أكثر من عشرين دولة لإسباغ الشرعية على "خطة ترامب" وإلزام الوسطاء بالتوقيع على وثيقة تتضمن إطارًا عامًا لمسار تحقيق السلام من وجهة النظر الأمريكية بمثابة فخ استراتيجي كبير يستلزم نظرة تحليلية وتأملية لهذا المسار الاستراتيجي ومفرداته. وقبل الخوض في مفردات المسار الأكثر خطورة، يتبغي الإشارة إلى فلسفة الوثائق، ولا سيما الوثائق السياسية التي تضم إطارًا عامًا وكلامًا فضفاضًا مثل الدساتير من دون دخول لتفصيلات قد تسبب خلافًا معلنًا أو حرجًا لبعض الأطراف، وذلك بغرض التوافق العام، ما يعني أن الوثائق السياسية تتميز بطرح الأهداف الاستراتيجية وتترك التكتيكات والخطوات التنفيذية للاتفاقيات والخطط.
إنّ ما حدث مؤخرًا هو تزامن بين وثيقة استراتيجية عامة وخطة تكتيكية مفصلة، أي إننا أمام مكاشفة وإعلان صريح عن هدف العدو الاستراتيجي، وهنا يمكن ترجمة مفردات الوثيقة سياسيًا كما يلي:
1. ما جاء في الوثيقة من حديث عن "ضمان أن تكون المنطقة مكانًا يمكن للجميع أن يطمح فيه إلى السلام والأمن والازدهار الاقتصادي، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو الأصل العرقي".
2. ترجمته السياسية ضمان لـــ"أمن اسرائيل".
3. سعى الموقعون على الوثيقة "لتحقيق رؤية شاملة للسلام والأمن والازدهار المشترك في المنطقة استنادًا إلى مبادئ الاحترام المتبادل والمصير المشترك".
4. ترجمته السياسية "أبدية الكيان" والتطبيع وتوسيع "الاتفاقيات الإبراهيمية".
5. الحديث عن "الطموح لتحقيق التسامح والكرامة والعزم على القضاء على التطرف والتشدد بأشكاله جميعها".
في هذا السياق؛ الوسطاء أصبحوا طرفًا مناقضًا للمقاومة؛ فقد التزموا بالقضاء على التشدد والتطرف، وتوحدت مواقفهم مع الموقفين الأمريكي والصهيوني. كما أن الخطوات التنفيذية بــ"خطة ترامب"، والتي تعد خطة تنفيذية لوثيقة شرم الشيخ، تتحدث عن قطاع غزة الخالي من "التطرف" و"الإرهاب"، والتي لا تشكّل تهديدًا لجيرانها ولا يقتصر الأمر على نزع سلاح حماس المنصوص عليه في الخطة، بل هناك بند يقول ما نصه: "سيجري إرساء عملية حوار بين الأديان على أساس قيم التسامح والتعايش السلمي، سعيًا لتغيير عقليات وتصورات الفلسطينيين والإسرائيليين، بالتأكيد على الفوائد التي يمكن جنيها من السلام"!
تاليًا؛ نحن لسنا بصدد تصفية المقاومة عسكريًا، وإنّما تجريف لثقافة المقاومة، كما أن الأمر لا يناقش قطاع غزة وحده؛ بل الحديث عن الوثيقة يشمل كامل المنطقة، والتي أشير إليها في الوثيقة بــ"الشرق الأوسط" كله، وبمنطق الإذعان الذي وصفه العدو بمصطلح "سلام القوة".
ممّا تقدم؛ يمكن أن نخلص منه إلى أن هدف أميركا الاستراتيجي والكيان هو تصفية أشكال المقاومة كلها في المنطقة واستئصال ثقافة المقاومة وإحلال ثقافة الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، تحت مسمى "التعايش" و"التسامح".
لذلك؛ مواجهة هذه الهجمة الاستراتيجية وإفشالها لا يقتصر على المقاومة المسلحة والدفاع عن سلاح المقاومة، يكون أيضا، وفي الأساس، عبر حماية ثقافة المقاومة كونها الاستثمار الاستراتيجي والضامن للصمود وإعادة الترميم والتغلب على الكبوات.
مما لا شك فيه أن جبهات المقاومة قد استطاعت الصمود أمام الهجمات الساحقة التي واجهتها، وأمام الحصار والخذلان والمؤامرات بتمسكها بعقيدة المقاومة واتحادها مع العقيدة الدينية. وهذا هو سرّ تجدد القادة بعد كل شهادة لقائد عظيم، وهو سرّ صبر الجماهير بعد التنكيل بهم وبأرزاقهم وبيوتهم وأمنهم وقوتهم.
لهذا؛ فطن الأعداء إلى سرّ الصمود ورمانة الميزان، وهي ثقافة المقاومة وعقيدتها، فجاءت أولوية استئصالها في بنوده الاستراتيجية المؤسسة للتكتيكات والتفاصيل والسياسات.
إن مجرد التمسك بعقيدة المقاومة وثقافتها هو إفشال لهدف العدو الاستراتيجي وضمانة لترميم القوة واستعادة الردع؛ مهما اختلت الموازين. وهي المحاكاة المثلى لنظرية فلسفية هي الأشهر، وهي "نظرية توينبي" عن "التحدي والاستجابة"، والتي فسرت صعود الحضارات عبر مواجهة التحديات وأن الانهيار ينجم عن الفشل في الاستجابة والمواجهة.
ذا افترضت أميركا وتابعها الصهيوني وتوابعها من الاستسلاميين، في أمتنا العربية والإسلامية، أن "التعايش" و"التسامح" هو استراتيجية بقاء الكيان وضمانة أمنه، فإن المنطق والواقع وحقائق التاريخ تقول إن المقاومة هي استراتيجية التحرير وزوال الكيان والاستعمار والهيمنة من المنطقة .. وعندما يشرعن اعداء المقاومة الاستعمار في ميثاق وعهد، فإنّ المقاومة هي عهد الأحرار الذين جددوا بيعتهم تحت شعار "إنّا على العهد".