سليم البيك/ جريدة القدس العربي
للواقع والتاريخ الفلسطينيين وطأة ثقيلة على السينما الفلسطينية، ثقيلة بمعنى أن لها أثرًا بارزًا على الشخصيات، وعلى القصص التي تحوم فيها وحولها هذه الشخصيات. هذا ما يجعل الفيلم الفلسطيني سياسيًا بالضرورة، وهذا ما يجعل لسياقات هذه السينما إحالات سياسية هي في صلب الهوية الفلسطينية لهذا الفيلم أو ذاك.
مهما حاولت الأفلام الانغماسَ في فردانية الشخصيات، طغى السياق بشكل أو بآخر وبنسبة أو بأخرى في هذا الفيلم أو ذاك. ومتى ابتعد الفيلم في قصة تاريخيًا، أي متخذًا من التاريخ لا الواقع، وطأة ثقيلة على القصة، اضطرّت الشخصيات، الرئيسية تحديدًا، إلى التخفف من فردانيتها مقابل تماهٍ أكثر مع عموم أفراد آخرين، يتشاركون التجربة والمرحلة التاريخية، وهذا ما يستلزم نوعًا آخر من السرد، يكون بأصوات مختلفة، أي بتوازي الشخصيات وتساويها النسبي، مع بروز خفيف لواحدة منها، من دون أن يتسبب هذا البروز بانفصالها عن بقية الأصوات، بل تكون بنبرة أعلى وحضور أوسع ضمن آخرَ عالٍ وواسع يكون جماعيًا.
فيلم «فلسطين 36» لآن ماري جاسر، مثال ممتاز على ذلك، لنقلِه قصة جمعية/فردية في فلسطين مكانًا وعام 1936 زمانًا، حيث الثورة والإضراب. للفيلم رغم إحالاته التاريخية وإسقاطاته المعاصرة، قصة فردية، لم تبرز بوضوح لتماهي الفرد مع الجماعة. يوسف، القروي، يجد عملًا في المدينة ويتنقل بينها وبين قريته. في المدينة سنرى مجموعة صغيرة من العمّال الثوار، وسنرى كاتبة صحافية، مثقفة، وكذلك قيادات محلية رجعية متواطئة مع الاستعمار والصهيونية. أما يوسف وأهله من الفلاحين فيتعرضون بشكل دائم للاضطهاد والإعدامات الميدانية. نتتبع يوسف بين المدينة والقرية، وما يعيشه في كل منهما، نتتبعه ضمن تناقضات يعيشها بين المكانين من ناحية، وبين كليهما والاستعمار من ناحية أخرى، حتى يحمل سلاحه مع الثوار.
في الفيلم تقسيم للدراسة إلى، العمال، الفلاحين، المثقفين. وكانت خلفيات قبل أن يدخل كنفاني متعمقًا في التحليل الطبقي في فصل بعنوان «الثورة»، رابطًا الاجتماعي بالسياسي. وهذا ما نراه بوضوح في الفيلم الذي اكترث بالمجتمع وتمثيلاته أكثر من اكتراثه بشخصية واحدة تتقدّم القصةُ على خطواتها. نحن هنا أمام حكاية جمعية أكثر مما نحن أمام قصة فردية، وهذا التماهي بين الفردي والجمعي تسبّب لدى مشاهدين بإرباك، بفقدان السيطرة على مآلات الشخصية الرئيسية، يوسف، إذ كثرت الشخصيات أفقيًا في وقت كان تعوّد المشاهدُ أن يتّخذ فيلمُ شخصيةً رئيسية واحدة متعمّقًا، أو محاولًا التعمّق، فيها عموديًا.
لكن ذلك يعود إلى أولوية نقل المرحلة التاريخية في الفيلم على نقل حالة فردية، وهو خيار للفيلم مختلف عمّا انسحبت عليه الأفلام التاريخية عمومًا. وزاد اختيار الممثلين من إرباك المشاهدين، فلم يكن لكريم عناية، مؤدّي دور يوسف، وجه مألوف، وهو أول دور سينمائي له، في وقت حامت حوله أوجه لممثلين عرب معروفين، من هيام عباس إلى ظافر العابدين مرورًا بصالح بكري وياسمين المصري، إضافة إلى أجانب مثل ليام كانينغهام وجيرمي أيرونز.
تاهَ، لذلك، وجهُ الشخصية الرئيسية عن ذهن المُشاهد المنشغل بتتبع أوجه مألوفة لم يكن أي منها شخصية رئيسية. هذا خيار سردي وليس خطًا، يصعّب المهمّة على مُتلقّيه، وهو أكثر إنهاكًا للمُشاهد المتعوّد على طرف لخيط الأحداث تُناوله إياه شخصيةٌ رئيسية تكون بوجه مألوف يكون عادة لنجم تحوم حوله أوجه أقل شأنًا، خاصة في فيلم تاريخي يتطلب، لبنائه أكثر من غيره، على وقائع ذات وقع، فيؤمّن الوجهُ المألوف التقدّمَ من خلال الوقائع بأمان سردي، ماسكًا يد المُشاهد من منطقة مستقرة سرديًا إلى أخرى، جاعلًا من القصة الشخصية ممرًا إلى تلك التاريخية التي تتخطاه كفردٍ إلى مجتمع أو شعب.
احتاج الفيلم، نسبيًا، إلى تلك الشخصية، إما بمنحها مساحة أكبر على حساب الرقعة الواسعة للشخصيات الثانوية، أو إلى منحها وجهًا مألوفًا في زحمة الشخصيات وممثليها المعروفين، وكل منها يمثّل فئة من المجتمع. احتاج الفيلم ذلك، بخفّة، من دون اضطراره إليه، فتعدُّد الشخصيات وتنوعها، والمخزون التاريخي الثقيل الذي تحركت ضمنه الشخصيات، يتطلّب، كذلك، مستويات منخفضة ومتساوية من التمثيل لكل شخصية، لسنا هنا أمام قصة فردية ضمن سياق تاريخي، بل أمام سياق تاريخي يتضمّن قصصًا فردية. الأولوية هنا للحدث التاريخي وشخصياته المتوازية، وهو هنا حدث مفصلي، مرحلة تأسيسية من تاريخ الكفاح الفلسطين.
هذا نجده في الأدب كما في السينما، هو خيار إبداعي آخر غير ما تعوّدت عليه العين في السينما. ندرك أن الفيلم التاريخي هو، أكثر من غيره، سينما غربيّة وأكثر من غيره يكون بإنتاجات ضخمة ذات منحى تجاري، وهذه الأخيرة تُقدّم الفردَ إلى الواجهة وتُرجع الحدث إلى الخلفية، ليكون التاريخ الجمعي منفيًا مقابل التاريخ الفردي. هوليوود البائسة، عوّدت المُشاهد على ذلك، على أن لا أهمية للحدث التاريخي، لمجزرة جماعية تتخلل الفيلم، مثلًا، أمام التفصيل الفردي، إصابة شخصية رئيسية بجرح. التماهي مع الشخصيات لدى المشاهدين، لإفراز مشاعر الرضى في النهاية، يحمل على التعاطف مع الجريح ذي الوجه المألوف لا مع الضحايات لمجزرة لا وجوه فيها، بل رؤوس، بل أعداد. هنا يكون المُشاهد استهلاكيًا، هنا لا يكون «فلسطين 36» مثالًا.
هنا، قلبَ الفيلمُ المعادلة، وضعَ المُشاهدَ أمام إرباكه، منحه فرصةً لمساءلة المتعوَّد عليه ذهنيًا من كثر ما شاهد أفلامًا تاريخية، قلبَ الفيلمُ المعادلةَ بتقديم الجمعي وتأخير الفردي، بتقديم السياق وتأخير القصة، وبالتالي، بنقلِ قصص متوازية ومتساوية لشخصيات متعددة، بدل القصة الواحدة التي تستأثر بالحدث السياسي وتجعل من الشخصية بطلًا يحوم حولها الحدث التاريخي. لذلك، أربك الفيلمُ مشاهدين كثرًا في نقل حدث تاريخي بغير ما عوّدت السينما الغربية المشاهدين عليه، أربكَ المشاهدين بجعل البطولة جماعية بقدر يفي السياق التاريخي حقّه ولا يجعله ظلًا لبطل سينمائي واحد يبحث عنه مُشاهد للتماهي معه واللحاق به بأمان إلى ختام الفيلم. أربكَ «فلسطين 36» ذاكرتنا السينمائية.
هنا، في فيلم تاريخي/سياسي/سوسيولوجي كهذا، لا ينفصل النضال الاجتماعي عن السياسي، والجمعي عن الفردي، كما لا تنفصل مصالح طبقة الملّاك في فلسطين، البورجوازية المدنيّة المتعاملة مع الصهيونية آنذاك، عن مصالح الاستعمار، مقابل تماهي المصلحة الطبقيّة والوطنية لكل من الفلاحين والعمال في القرية والمدينة. هذا الذي قرأناه في كتيّب كنفاني نراه بحرفيّة سينمائية عالية في الفيلم، ما تطلّب اكتراثًا بالمجتمع أكثر منه بالفرد.
من عنوانه ندركه، «فلسطين 36»، هذا هو مكان الفيلم وهذا زمانه، بلا مواربة، كأن الفيلم يحدّد لنا بعنوانه شديد التكثيف موعدًا، بالمكان والزمان، مع أصل الحكاية، أصل الثورة. الفيلم، بعنوانه الدقيق الصميميّ، بإصراره على تحديد هذه السردية مكانًا، فلسطين، وزمانًا، 1936، بتقديم فلسطين بوصفها، أصلًا، قضية تاريخية لا شأنًا إخباريًا راهنًا، يفتح بابًا مزدوجًا للسينما الفلسطينية: الفيلم التاريخي لأحداث تأسيسية للكفاح الفلسطيني هو الآن ضمن الممكن، الصورة الكفاحية التاريخية والمعاصرة لأفراد وجماعات فلسطينية هي كذلك ضمن الممكن.