في عالمٍ مليء بالصور والمشاهد التي تتسابق لتغزو صفحات الصحف والمجلات، في عالمٍ يتطلع فيه الناس إلى كل ما هو جديد وغريب، تبقى هناك صورة واحدة لم تجد طريقها إلى العناوين العالمية الكبرى. إنها صورة طفلة، صغيرة تدعى «أسماء» لا يتجاوز عمرها السبع سنوات، حافية القدمين، منهكة، مثقلة الخطى، تمشي تحت الشمس الحارقة.
لو كانت تلك الطفلة من أي بقعة أخرى في العالم، لكانت صورتها هي الحدث العالمي، ولكانت قصتها هي الشاغل الرئيسي. لكن تلك الطفلة من غزة، من تلك البقعة المنسية التي لا يذكرها الإعلام إلا حين يهطل الدمار.
شعرها المتشابك، المتسخ من غبار الطريق، يلامس وجنتيها اللتين احترقتا من الشمس والقهر.. ينام قليلًا ثم يرفرف قليلًا ليحكي حكاية صغيرة لم تعد تعرف طعم الطفولة، بل صارت قهرا للطفولة رمزا للصمود. ثم يعود ليتبعثر على وجهها، وكأنه خيوط من شمس غربت من دون أن تُمنح الدفء، ويتراقص، يتراقص كثيرًا ويبكي كثيرًا مع كل خطوة تأخذها بصعوبة، فكل خصلة من شعرها تحكي قصة رحيل، كأن الرياح أرادت أن تزيحها عن مسارها، لكنها مثل غزة، لا تنحني، لا تتراجع.
لقد تابعت سيرها بالرغم من الانهيار ببطء شديد، تحمل على ظهرها عبئا أكبر من عمرها الصغير. إنها أختها، التي لا يزيد عمرها عن خمس سنوات، ضربتها سيارة في إحدى لحظات الفزع، ولم يعد هناك من يعينهما سوى شجاعة تلك الصغيرة، الكبيرة.
تغلق الطفلة قلبها على الألم، تتحدى العطش وحرارة الشمس التي تلفح وجنتيها، وتقاوم كي لا تسقط بحملها، كي لا تفلت منها شقيقتها. تواصل المشي، خطوة تلو الأخرى، رغم الإنهاك الذي يكاد يطيح بجسدها الضعيف.
لقد لفتت انتباه أحد المارة، بأنفاسها المتقطعة، طفلة تحمل طفلة تكاد تكون بحجمها نفسه. تتدلى من كتفيها كما لو أنها تحمل العالم الظالم كله على ظهرها الهزيل.
اقترب الرجل متسائلًا:
لماذا تحملين أختكِ هكذا؟
ترفع عينيها فتجتاحه إجابة هادئة ثقيلة كصخرة:
دهستها سيارة.
يتابع متسائلًا، أين تأخذينها؟ ألست تعبانة؟
تجيبه وهي تستجمع أنفاسها: أريد أن أذهب بها إلى خيمتنا.
أنا تعبانة، لكن أمي لا تستطيع المشي بها. سأذهب إلى منتزه البريج.
في تلك اللحظة، يتبدد المشهد الفردي ليكشف عن قضية أكبر. تلك الطفلة ليست وحدها، إنها صورة مصغرة لغزة بأكملها. غزة، الجريحة التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، ترقد بين ذراعي صغارها، تئن تحت وطأة الجراح. هي غزة التي، رغم ما تعانيه من ظلم وخراب، لا تزال تقاوم، لا تزال تمشي بخطى مثقلة نحو الحياة، تحمل أبناءها رغم كسرهم وألمهم، وترفض أن تستسلم.
الطفلة تلك التي قد لا يعرفها أحد ولا يلتقط صورتها مصورو الصحف الكبرى، هي رمزٌ للكرامة. تلك الروح التي لا تُمَس، رغم كل محاولات طمسها. في عينيها البريئتين، يحضر تاريخ الصمود، وفي خطواتها البطيئة نسمع أنين الأرض، أرض ستبقى دائمًا في قلوب أهلها، كعصفورة تغفو فوق كتف عصفورة، مهما اشتدت الحرارة ومهما طالت ووعرت الطريق.
ومن غزة إلى بيروت
أكثر من سنة وسماء غزة مشتعلة.. أصوات الانفجارات تقطع أوصال المدينة.. مدينة باتت تعرف الحرب لغةً يومية، ترافقها في كل خطوة، في كل نَفَس. وبالقدر نفسه من الألم، تستيقظ بيروت يوميًا على غارات إسرائيلية تهوي على مبانيها، لتسقط عماراتٍ كانت تشهد على تاريخ مجد طويل.. مات تحت أنقاض تلك العمارات كثيرون، ونزح آخرون تاركين وراءهم مدينتهم التي احتضنتهم لعقود. بيروت التي طالما كانت رمزًا للحياة، باتت تغرق في الحطام.
وسط الضجيج، وأصوات الحرب والرعب، سمع الناس صوتًا قويًا يجتاح المدينة، يرتد بين الشوارع الخاوية والمباني المدمرة. صوتا يملأ السماء والأرض: «ميرنا يا ميرنا»!
كانت الصرخة تزلزل كل شيء، كأنما تحاول الإمساك بما تبقى من الروح. لا أحد يعرف من كان يصرخ، ولا من هي ميرنا. أهي ضحية من آلاف الضحايا؟ أم مجرد اسم لامرأة تبحث عنها الحرب لتسرق ما تبقى من حياتها؟
ميرنا، كانت أكثر من مجرد اسم. هي زوجة وأم، وابنة وأخت، امرأة تمثل كل الأرواح التي ضاعت في لحظة واحدة، كل الأحلام التي تهدمت تحت ركام المدينة. كان الصراخ يعبر عن كل قلب مفجوع، عن كل عائلة فقدت جزءًا منها، وعن كل شارع خسر تفاصيله في تلك الليلة الموحشة.
«ميرنا يا ميرنا» لم تكن مجرد صرخة شخص واحد يبحث في الفوضى عن غالٍ، بل كانت نداء بيروت لنفسها، كانت الروح التي تحاول ألا تتبدد وسط الغارات. ضاعت «ميرنا»، كما ضاعت بيروت.
وبدلًا من أن تبقى مدينة الحب والحرية، أصبحت مكانًا تبحث فيه الأرواح عن ملجأ. «ميرنا»، تلك المرأة التي قد لا نعرفها، هي رمز لكل ضائع في الحرب، لكل قلب تاه بين أنقاض الحياة. لم يكن النداء لشخص واحد، بل كان نداءً لمدينة بأكملها، لبلدٍ تمزقه الحروب وتدميه الفتن.
في تلك الليلة، حين كانت بيروت تغرق في الظلام، كانت ميرنا تمثل كل ما تبقى من ضوء. كانت صورة الوطن الذي يحاول الصمود، رغم كل شيء. ضاعت ميرنا، وضاعت بيروت، لكن الصرخة بقيت تتردد في الأفق.