ربيع عيد/ العربي الجديد
تعكس تغطية وسائل الإعلام البريطاني المركزية لصفقة التبادل منذ أسابيع، امتدادا لنفس منطق التغطية الإعلامية لحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، إذ ما زالت ترفض هذه المؤسسات الإعلامية بيمينها ويسارها، استخدام مصطلح إبادة جماعية حتى الآن. إضافة إلى التستّر على تعاون ودور المملكة المتحدة في دعم هذه الإبادة من خلال تزويد بريطانيا لإسرائيل بالسلاح والمعلومات.
بحسب تقرير صدر الشهر الماضي لموقع ديكليسفايد البريطاني، فإنه منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تبلغ هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بشكل أساسي عن الطرق الرئيسية التي تعمل بها حكومة المملكة المتحدة مع إسرائيل وذكرت أربع مرات فقط في 15 شهرًا أن سلاح الجو الملكي البريطاني كان يجري رحلات استطلاعية فوق غزة. كذلك اعتذرت "بي بي سي" قبل يومين عبر الهواء مباشرة عن استخدامها مصطلح "سجناء" بدل "رهائن" خلال إحدى التغطيات الإخبارية للقناة عن صفقة التبادل بين الحكومة الإسرائيلية وحركة المقاومة الإسلامية حماس. جاء الاعتذار سريعًا وفي نفس اليوم عن هذا الوصف الذي قيل صباح يوم الجمعة عن الإسرائيليين الثلاثة الذين أفرجت عنهم حركة حماس أمس السبت.
ورغم حصول بعض التغيرات الإيجابية في عدد من هذه المؤسسات لصالح إعطاء مساحة أكبر للصوت الفلسطيني ورواية قصصه الإنسانية، وذلك بفعل مطالبات وانتقادات داخلية من موظفين وصحافيين وأخرى خارجية من نشطاء وجمهور، وأيضًا كون الجرائم الإسرائيلية لا يمكن إخفاؤها، إلا أن منطق التغطية في صفقة التبادل يبقى لصالح أنسنة الإسرائيليين الذين هم "مختطفون ورهائن" لديهم عائلات، مع تجاهل لتعذيب وقمع الأسرى الفلسطينيين الذين يوصفون بـ"السجناء".
أمثلة واضحة على ازدواجية الإعلام البريطاني
وفي تقرير لقناة سكاي نيوز أمس السبت بعنوان "كل ما تحتاج إلى معرفته عن أحدث صفقة تبادل أسرى بين إسرائيل وغزة"، يبدأ مراسل القناة آدم بارسونس تقريره بالتساؤل عما إذا كانت حماس سوف تستمع إلى الوسطاء لتكون عملية التبادل أكثر تنظيمًا بعد ما وصفه بالفوضى في تبادل يوم الخميس، ويظهر في نفس الوقت فيديو تسليم الإسرائيلية أربيل يهود وهي محاطة بعناصر القسام مع بعض التدافع من الناس، ثم يجيب عن سؤاله بالقول نعم كانوا أكثر تنظيمًا وأقل "مسرحية" على حد قوله.
بعد ذلك يبدأ المراسل بذكر اسم كل إسرائيلي من الإسرائيليين الثلاثة الذين أُفرج عنهم يوم السبت، ويحكي بعض المعلومات عن كل شخص وعن عائلته مع صور له وهو يحتضن عائلته. ويعطي التقرير (مدته دقيقة وعشرون ثانية) مساحة كبيرة من الوقت للإسرائيليين وصورهم مع عائلاتهم بينما يُختصر الأسرى الفلسطينيون بجملة واحدة عن الإفراج عنهم (السجناء بحسب وصفه) وصور خروجهم من الحافلات لمدة عشر ثوان دون قصص أو أسماء أو عائلات.
تقرير آخر نُشر يوم أمس السبت في موقع صحيفة ذا تايمز بعنوان "غزة تستقبل 183 سجينًا بعد الإفراج عن ثلاث رهائن إسرائيليين"، يوحي أن التقرير المكتوب سيكون عن الأسرى الفلسطينيين العائدين إلى عائلاتهم في قطاع غزة، إلا أن التقرير يبدأ بالحديث عن الإسرائيليين الثلاثة المُفرج عنهم مع صورهم وهم يحتضنون عائلاتهم. ثم يخصص التقرير فقرة خبرية عن عودة الأسرى الغزيين (يُوصفون بسجناء)، وبعدها الحديث عن بعض التطورات والتصريحات السياسية المتعلقة بصفقة التبادل ومساعي دونالد ترامب والجدل حول إخراج الغزيين من القطاع، ليعود التقرير والتحدث مرّة أخرى عن القصص الإنسانية للإسرائيليين المُفرج عنهم وعن عائلاتهم وكيفية أسرهم والمزيد من الصور لهم، دون أي ذكر للأسرى الفلسطينيين سوى أعدادهم.
حتّى الصحف المحسوبة على اليسار مثل صحيفة ذا غارديان، ومنذ الأيام الأولى لعمليات التبادل الشهر الماضي، كانت المساحة وصور الأغلفة والصور الرئيسية في الموقع للإسرائيليين مع الإشارة إلى أن الصحيفة تعطي مساحة أكبر للقصص الإنسانية الفلسطينية مقارنة مع وسائل الإعلام البريطانية الأخرى. مع ذلك لا تذكر الصحيفة أسماء الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم وهو ما يدل على قصور في الوصول للمصادر الفلسطينية وتوظيف صحافيين فلسطينيين.
في غلاف صحيفة فاينانشال تايمز يوم الجمعة، وُضعت صورة الإسرائيلية المُفرج عنها أربيل يهود على الصفحة الرئيسية وهي محاطة بعناصر من كتائب القسام وسرايا القدس قبل تسليمها للصليب الأحمر، وهي الصورة التي جرى تناقلها من قبل وسائل إعلام عالمية عديدة مع كل ما تحمله من حمولة استشراقية منزوعة السياق، ليصبح بعض التدافع حالة من "الفوضى" والخطر على الإسرائيلية التي كُتب عنها في وسائل الإعلام الغربية أكثر من الأسيرات الفلسطينيات.
من اللافت تجاهل الإعلام البريطاني حالة الأسرى الفلسطينيين الجسدية والنفسية التي يخرجون بها وشهادات مئات الأسرى المُفرج عنهم حتى الآن، عن التعذيب والقمع ومحاولات الإذلال التي يعيشها الأسرى في سجون الاحتلال. كذلك تجاهل عدد من التقارير التي أصدرتها مؤسسات فلسطينية وأخرى دولية بهذا الشأن وحتى الإسرائيلية مثل تقرير "بتسيلم" الصادر قبل أشهر والذي حمل عنوان "أهلًا بكم في جهنم" لوصف السجون الإسرائيلية.
ما لا يحكيه الإعلام البريطاني
لم يتجاهل الإعلام البريطاني المركزي معاناة الأسرى الفلسطينيين وقصصهم خلال لحظة الإفراج عنهم في هذه الأيام، بل على مدى السنة والنصف الأخيرة التي تحوّلت فيها السجون الإسرائيلية إلى معتقلات للتنكيل الجسدي والنفسي، ينعدم فيها العلاج الطبي وتفتقر لأبسط أسس مقومات الحياة الكريمة، وصلت إلى حد العقاب بالتجويع، إضافة للاعتداءات الجنسية وهو ما أشار له تقرير للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي الذي دعا للتحقيق في "الإهانات الجنسية على نطاق واسع والتهديدات بالاغتصاب والاغتصاب الجماعي، وعمليات التجريد من الملابس، المهينة والمتكررة، بغرض التفتيش، والتعري القسري لفترات طويلة، والضرب والصعق الكهربائي للأعضاء التناسلية وفتحة الشرج، وإدخال أجسام في شرج المعتقلين، واللمس غير اللائق للنساء بواسطة الجنود والجنديات، وتصوير المعتقلين عراة أو عراة جزئيًا في أوضاع مهينة".
في المقابل، حظيت عائلات الأسرى الإسرائيليين والممثلين عنهم والناشطين لأجلهم باستضافات دائمة في وسائل الإعلام البريطانية خلال السنة والنصف الأخيرة، بينما غابت أصوات عائلات الأسرى الفلسطينيين بشكل شبه كامل عن الاستضافة والتغطية رغم الفرق الكبير بالأعداد مقارنة بالإسرائيليين ووجود آلاف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. كما غُيبت الأصوات الممثلة للأسرى وغُيبت صورهم وقصصهم، منهم الأسرى الإداريون الذين سجنوا دون أي تهمة.
قد تنشر بعض وسائل الإعلام لاحقًا بعض القصص، بعد ضغط ونقد، فتأتي هذه القصص كرفع عتب، وفي محاولة للموازنة لمواجهة النقد، إلا أنها تكون متأخرة عن اللحظة الإخبارية ويجب أن تمر بالكثير من المراجعة قبل النشر والتأكد والفحص، بينما للقصص الإسرائيلية سهولة في الخروج إلى الجمهور وفي أي وقت.