أوراق ثقافية

الفيلم الوثائقي «تقسيم»… تفكيك الأرشيف الاستعماري لفلسطين

post-img

سليم البيك/ القدس العربي

لا ينحصر العمل السينمائي للبريطانية ديانا ألان بنوع السينما في موضوعها، بل يتخطاه إلى البحث وعلوم الإنسان أو الأنثروبولوجيا، والعلوم الاجتماعية أو السوسيولوجيا، ممتدة في منجزها المقروء والمشاهَد، إلى دراسة عمودية الأنثروبولوجيا وأفقية السوسيولوجيا. هذا ما نجد نتيجةً له في فيلمها الوثائقي التجريبي الأخير «تقسيم» (Partition).

الفيلم المشارك، الأسبوع الأخير، ضمن العروض الخاصة في مهرجان «سينما الواقع» في باريس، وقبله بأسابيع في مهرجان روتردام السينمائي، يستعيد الإنسان/المجتمع الفلسطيني ما قبل النكبة، في فيديوهات صامتة، 16 ملم، هي أرشيف خام مصوَّر ما بين 1917 و1947، ومعظمها في العامين المذكورين أكثر مما هو ما بينهما. أما المصدر فهو الأرشيف المنهوب في الحكومة البريطانية اليوم. هو ما صوّره الاستعمار آنذاك، باستشراق تام، من فلسطين (الأرض المقدسة) ما قبل انمساخ الاستعمار الكلاسيكي على تلك الأرض إلى استعمار استيطاني.

هذا ما جعل من «تقسيم» وثيقة لحال الإنسان الفلسطيني على أرضه، وبين مجتمعه، وإن كان بعدسة استعمارية، لكن العدسة تفكّكت هنا وأعيد استعمالها بما لا يخدم الغاية الأصلية لها، كما صوّرها المستعمرون الإنكليز، بل بما يناقضه، بأثر رجعي، من خلال المونتاج والمكساج، تقطيع الصّور ولصقها، ثم تركيب صوت عليها. فيكون التوليف الصوريّ والصوتيّ استعادة لأرشيف خام، محايد متى كان في الأدراج، استعادة خلعت عنه سياقَه الاستعماري/الاستشراقي، ملبسًا إياه سياقًا مناهضًا للاستعمار ذاته، سياقًا أقرب إلى الإنسان والمجتمع كما أظهرتها الصور. وللمخرجة أساسٌ مكّنها من هذه المقاربة التجريبية الوثائقية، كان في كتابين لها، أولهما تأليفًا «لاجئو الثورة: تجارب من المنفى الفلسطيني» (2014)، وثانيهما تحريرًا «أصوات من النكبة: تاريخ حيّ لفلسطين» (2021).

لم يكشف الفيلم حال الفلسطينيين آنذاك، بمعزل عن العدسة الإنكليزية وحسب، بل أدمجت المخرجةُ صوتًا خارجيًا في هذه الفيديوهات الأرشيفية الصامتة، كان، الصوت، راهنًا، كان لاحقًا للصور قرنًا من الزمان. كان لنساء ورجال من مخيم عين الحلوة في صيدا جنوبي لبنان، يعلّقون على الصور، يغنّون، يتحدثون بحرية تامة في ما يتعلق بالصور وما لا يتعلق بها. يحملون المصوَّر من زمانه إلى زمانهم، من مرئيّات مغبّشة وضبابية لبلادهم إلى صور شديدة الوضوح والإدراك للبلاد ذاتها، في خيالاتهم وما تناقلوه من ذكريات أجدادهم. هي البلاد ذاتها، لكنها، كلامًا ومشاهد، كانت في الأحاديث من المخيمات استعاديةً لتلك التي في الأرشيف، الآتية من البلاد لحظات قبل ضياعها. فكان الصوت استرجاعًا للصورة، كان الراهن المخيماتي استرجاعًا لماضٍ، لزمان زاد عن القرن، كان استرجاعًا تلقائيًا، كان الحديثُ عفويًا، حقيقيًا، عن بلاد مألوفة. هي ألفةٌ امتدت مما قبل إنشاء إسرائيل الاستيطانية على البلاد إلى ما بعدها. كأنّ الزمان واصل بين المشاهد الأحدث من الأرشيف، 1947، والأصوات الحديثة المزامنة لصناعة الفيلم ذاته، متخطّيةً إسرائيل. الصوت كان هنا أداة لتفكيك ماضٍ استعماري، لاستعادة هذا الماضي وما ضمّه من بلاد تفككت، أو تقسّمت حسب عنوان الفيلم، بفعل استعمارين، كلاسيكي واستيطاني، لاستعادته ووضعه في نصابه الصحيح، في راهن المخيم، في عين الحلوة.

الاستعادة التفكيكية للأرشيف لم تكن في المضمون، في العمل الفني بحد ذاته، في ما هو داخل الصورة، وفي تركيب الصوت عليه، بل كذلك في طريقة الاستحواذ على الصورة ذاتها، الصورة المسلوبة. سألت ديانا ألان الجهات الحكومية المعنية عن إمكان استعمال المَشاهد الأرشيفية وتكلفة حقوق ذلك، وصلتها إجابة بنحو 35 ألف دولار، فاستغنت واستحوذت على المَشاهد بتصويرها من خارجها، بكاميرتها عن شاشة تعرضها. لتملك بنفسها المَشاهد المصوَّرة من جديد، كأنها، هنا، أعادت للمُشاهَد موقعه في سردية التاريخ الفلسطيني لما قبل عام النكبة. فكّكت بذلك علاقة القوة التي سيطرت على الأرشيف و»حفظته» في أدراج «الأرشيف الإمبريالي البريطاني»، ليخرج من حالة المتحفيّة إلى راهن حيّ، بفعل أصوات اللاجئين الفلسطينيين، وبفعل إعادة موضعة الصورة قبل أن يُركَّب الصوت عليها. هذا ما يُسمّى، تمامًا، تفكيك الاستعمار في الأرشيف وإعادته إلى أهله، إلى الإنسان والمجتمع الفلسطينيين.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد