اوراق خاصة

الهويةُ في بلدٍ مجتزأ السيادة..!

post-img

د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

خاص موقع "أوراق"

"لم أعد أعرف معنى أن أكون لبنانيًا" .. قال لي شاب من الجنوب مؤخّرًا، إلتقيته بعد سيل من الانتهاكات المستمرة لأراضي هذا الوطن النازف. لم يكن غاضبًا، ولم يكن غير مبالٍ، بل كان مرتبكًا، وفي خضم هذا الارتباك، سكن فيه حزن هادئ.

قد يسهل على البعض  وصف هذا الطرح يأسًا، وقد يراه البعض الآخر خيانة. لكنني أرى الأمر ببعدٍ مغاير، أراه أصدق رد فعل على التناقضات التي نعيشها. وفي الواقع، أعتقد أن هذه الكلمات تحمل صدقًا أكبر من كثير ممّا ينطقه البعض، أو من شعارات تُرفع بين الحين والآخر. إذ عندما تُنتهك أرضك، وعندما لا يعود جسدك آمنًا في وطنك، وعندما يصبح علمك ستارًا لمصالح فئوية عند هذا أو ذاك، تبدأ هويتك بالتسرّب من بين أصابعك، وتنسحب من بين روحك وأضلعك.

المواطنة في لبنان جواز سفر من شظايا

هل سألت نفسك يومًا، ماذا لو لم يكن جواز السفر رمزًا للانتماء الوطني، بل فسيفساء من الولاءات التي لم تخترها قط؟

 في لبناننا نستصدر جوازات سفر من "شظايا". في هذا الإطار، تتطلّب الكتابة عن المواطنة في لبنان من منظور الانقسام، والصراع، وأزمة الهوية حساسيةً وأصالةً. صحيح أنّ مفهوم المواطنة قد لا يأتي مُغلّفًا بدقّة في الدستور، بل يستقر في الجسد كمتناقض، يمُنح قانونيًا، لكن يُنكر عاطفيًا.

وربما تكون الحقيقة المرّة، أنّه ليس لدينا مجرد "لبنانات مختلفة"، وإنّما لدينا جنسيات مختلفة، لذلك لا تُصدر الدولة اللبنانية جوازات سفر متعددّة، بل جواز سفر واحد مجزّأ موشوم بالطائفة، وملطّخ برماد التشظّي المستمر.. فعندما نقول "مواطنة"، يُفترض أن يعني ذلك من الناحية القانونية: الحماية والانتماء، والحق في المشاركة في الحياة السياسية والحياة العامّة. أما في لبنان، فتصبح المواطنة أشبه بعبء متوارث، ينتقل عبر خطوط القرابة والانتماءات الطائفية والولاءات الشخصية.

صحيح أنّ مفهوم المواطنة عرف تغييرات جوهرية في مضمونه واستخدامه، ولم يعد  يجسّد فقط العلاقة بين الفرد والدولة في شقّيها السياسي والقانوني، بل أمسى الاهتمام بمفهوم "المواطنة" يطغى على كل مناحي الحياة المجتمعية. وأضحت المواطنة بمثابة آلية فعلية للحد من الصراعات الإثنية، والعرقية، والاجتماعية، على قاعدة مبدأي عدم التمييز والمساواة،

من هذا المنطلق، يُعنى المواطن بثلاث قضايا: كيفية تأطير علاقته بالدولة، ثم مشاركته في اتخاذ القرار، أي وفق أي صيغة دستورية، وأخيرًا مسؤوليته كونه عضوًا فاعلًا في المجتمع ودوره في المشاركة الحيوية، على أساس أن كل ما يدور في الدولة والمجتمع أمور تعنيهأما في لبنان، فتتّسم هذه العلاقات بالتسلسل الهرمي العميق، وغالبًا ما تكون أبوية، وغالبًا ما تتوسّطها الهوية الطائفية.

ما بين المأمول والواقع

تقودنا هذه الطروحات إلى السؤال الآتي، هل ما يزال بإمكاننا الحديث عن "المواطن اللبناني" عندما تُفرّغ الدولة من وجودها، وهل يمكننا الحديث عن المواطنة عندما تُستبدل الهوية الوطنية بالزبائنية، ويُقايض الولاء بالبقاء؟

دعونا لا نتظاهر بأنّ هذه أزمة هوية مستقرّة، وإنّما هي مع الأسف شرخ مستمر، وعنيف في آثاره. وفي ظل الدولة المختفية والطائفة المتوسّعة، تُصبح لكنتك، واسم عائلتك وموقعها ودورها وتاريخها، بيانات بيومترية في النظام الاجتماعي اللبناني، وهي بالتأكيد أكثر حسمًا بكثير من هويتك الوطنية.

الهويةُ في بلدٍ مجتزأ السيادة

عندما تُنتهكُ الأرضُ - سواءٌ من خلالِ عدوانٍ أجنبيٍّ، أم بسبب تدميرٍ بيئيٍّ، أو فسادٍ داخليٍّ، فإنَّ المواطنَ لا يشهدُ مُجرَّدَ انتهاكٍ لحدودِهِ فحسب، بل يُشاهدُ محوَ المعنى، وتَفكُّكَ الأرضِ التي يُفترضُ أن تُرسِّخَ هويَّته.

فكيف لي أن أقول "أنا لبناني" وأنا لم أعد أعرف ما يمثّله لبنان؟ وكيف أحب وطنًا لا يبادلني الحب أو الحماية؟ هذه ليست أسئلة بلاغية، بل هي أسئلة إنسانية عميقة. تُطرح يوميًا، في صمت من هُجّروا غصبًا من أراضيهم ومنازلهم.

حرية بلا أرض: انتماء بلا مأوى

لا أدري ماذا قصد جبران خليل جبران عندما قال "لكم لبنانكم ولي لبناني"، هل يا ترى كان يقصد  ارتباك هوية المواطن. في حال البحث عن المواطنة، نعيش في لبناننا تصادمًا بين التجربة المعاشة والأسطورة السياسية. تتحدّث الدولة بشعارات،"شرف، تضحية، وفاء"، لكن الشعب، أو قسمًا لا بأس به على الأقل، يشعر بأنه غير محمي، وغير مسموع. واقع ملموس يُولّد نوعًا من التنافر الوجودي: فجوة بين ما يُطلب من المرء أن يشعر به، وما يشعر به بالفعل.

مع ذلك، في خضم هذه الفجوة، تظهر أشكال جديدة من الانتماء، إذ يمكن أن نعدّ قول "لم أعد أعرف معنى أن أكون لبنانيًا" ليس استسلامًا، بل إنّها بداية إعادة صياغة ما يمكن أن يعنيه اللبنانيون، خارج الولاءات الموروثة نحو شيء حقيقي.

ماذا يعني الانتماء؟

لنطرح معًا الأسئلة الصعبة، ماذا يعني أن تكون لبنانيًا عندما تكون حكومتك شبحًا، وطائفتك نجاتك، وهويتك مُصاغة من خلال الصدمة؟  وماذا يعني أن تكون لبنانيًا عندما تكون أرضك وسماؤك، وحدودك، وحياتك، وتاريخك ووجودك مستباحًا في كل لحظة؟ وماذا يعني أن تكون لبنانيًا عندما تُصبح أزمة المواطنة هي أيضًا أزمة ذات؟

هل ننتمي حقًا إلى وطن، أم فقط إلى جماعة؟ هل أنا لبناني لأن أوراقي الثبوتية تقول ذلك؟ أم لأن والدي لبناني؟ أم لأن طائفتي تسمح لي بذلك؟ وهل يمكن لمواطن لبناني أن يشعر بأنّه لبناني عندما يعيش في كل لحظة أزمة وجود، وأزمة بقاء وأزمة  تشظّي. وبماذا نشعر، عندما يُصبح مفهوم الانتماء الوطني نوعًا من الخيال التأملي: مقنّع، وغير محتمل وغير مكتمل؟

الحاجة إلى إعادة اختراع الذات

يطرح جيل جديد أسئلة مختلفة، ليست مجرد احتجاج على الفساد، بل صرخة ضد التشرذم. وعندما هتف الناس لإسقاط النظام الطائفي، لم يكن هتافهم لأنهم رفضوا الهوية، بل لأنهم أرادوا إعادة تشكيلها. كُثُر هم من يرفضون إسقاط تعريف للهوية، ويُطالبون بأن يُحدّدوها بأنفسهم، وهذا هو جوهر المسألة و الحاجة المُلحّة لإعادة الابتكار.

أمام ساحة الصراع الثقافي الممزّقة بين الولاءات الطائفية، والصدمات التاريخية، والحاجة المُلحة لإعادة اختراع الذات. السؤال ليس ما إذا كنا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، بل: هل يُمكننا تخيّل عقد اجتماعي جديد؟ وكيف يمكننا تقديم رؤية أكثر تفاؤلًا لمستقبل لبنان؟

أكاد أجزم بأنَّ المواطنَ الذي يُعبِّرُ عن حيرتهِ بشأنِ هويتهِ في مواجهةِ الانتهاكاتِ المُتكرّرةِ للأرضِ والسيادةِ ليسَ ضعيفًا أو تائهًا، بل هو في غايةِ الوعي. فحيرتُهِ ليستْ لامبالاةً، بل هي شكلٌ من أشكالِ الوعيِ النقديِّ. إنها صدىً داخليٌّ لبلدٍ لطالما كانت هويتهُ مُجزأةً ومُمزَّقةً بينَ الانتماءِ الطائفيِّ والتشابكاتِ الإقليميةِ، والصدماتِ التاريخيةِ، وفكرةِ الأمةِ المُوحدةِ.

جرح تاريخي،.. وضوح سياسي

شهد كل جيل في لبنان شكلًا من أشكال العدوان الخارجي، احتلالًا، وقصفًا، وتوتّرًا، لا استقرار .... لكن اليوم، بدأ العديد من المواطنين يدركون أن انتهاكات الأرض مرتبطة بانتهاكات الكرامة، والصوت، والعدالة. يُنتج هذا الوعي شكلًا جديدًا وخامًا من الثقافة السياسية، فالحدود الوطنية لا تعني شيئًا من دون سيادة القرار.

إذًا، كيف يتوجّب علينا النظر إلى المواطن اللبناني المرتبك؟ علينا أن نراه مرآةً لحالنا الجماعية. أزمة هويته ليست فشلًا شخصيًا، بل هي عرض سياسي لبلد عجز عن بناء سردية انتماء متماسكة وشاملة. ولعلّ التعبير عن هذا الالتباس، هو ما يُمكّن من تشكّل هوية جديدة. هوية تنحت بروح من يعيش بين الألم والكرامة وإمكانية التجديد.

وطن لا يتسع لنا

نادرًا ما كانت المواطنة في لبنان قائمة على الشمول. إنها ليست وعدًا مشتركًا بين الشعب والدولة. إنها ساحة معركة، مساحة تتنافس فيها الولاءات الطائفية وشبكات المحسوبية والقوى المتنافرة على المعنى. ولاءات تُنتج انتماءات لأشخاص يعيشون في المنتصف: بين الحب والخيانة، وبين التاريخ والاختراع، وبين الحنين والضرورة.

لهذا السبب، عندما تُهاجم الأرض، بالهواء، وبالفساد، وبالصمت عن الاعتداءات المتكرّرة تحت مسمّيات متعدّدة، لا يستجيب الجميع بالطريقة نفسها . فالبعض يقف متحدّيًا، والبعض الآخر ينهار في حال من اللامبالاة، وكثيرون يهاجرون فكرًا أو جسدًا أو الاثنين معًا. ويزداد عندها عدد الناس الذين يعترفون بهدوء "لم أعد أعرف أين أنتمي في هذه الرواية..."

لكن أن نكون لبنانيين اليوم، يدفعنا ربما إلى طرح أسئلة تتمحور حول الانتماء إلى بلد لا يحمي مواطنيه، وإلى بلد نبحث فيه عن  شكل جديد  نحقّق من خلال ثوابته أحلامنا الرافضة لواقع تطبيع العنف، واقع  يقول: ما زلت أشعر بشيء ما، تعلّق ما، حتى لو لم أعد أعرف كيف أسميه. وهذا "الشيء" هو بداية إعادة الاختراع.

السر المفقود.. نوع جديد من المواطنة

تكمن خشبة خلاصنا ربما في استعادة فكرة المواطنة اللبنانية، ليس كعلامة طائفية أو خيال بطولي، بل بصفتها أخلاقيات مشتركة ومعيشية قائمة على الالتزام المسؤول والرعاية. أخلاقيات تحمي الجميع، أخلاقيات تقدّم أكثر من مجرد شعارات، أخلاقيات والتزامات وأفعال تصون حقوق المواطنين في الرعاية الصحيّة، وتأمين المأوى، وحماية الوجود، وجميعها تتحقّق من خلال الاصغاء إلى صوت الضمير... وربما التعويل على من ما يزال يهتم بما يكفي لطرح سؤال "ماذا يعني أن تكون لبنانيًا؟" هؤلاء وحدهم من سيجرؤون على الإجابة عن هذا الطرح بشكل مختلف. وفي بلد تنسى فيه الدولة شعبها، ربما تبدأ استعادة المواطنة بتذكر بعضنا البعض. فلنطلق العنان لأصواتنا، فنحن لا تُبلّغ فحسب، بل نُفسر ونشعر ونشهد.

ممّا لا شك فيه أنّ لبناننا بحاجة إلى إجابات مختلفة لإعادة بنائه في هذه الفترة الوجودية الحسّاسة، ونحن بالتأكيد بحاجة إلى أفعالٍ غير مقتصرة على النوايا، أفعال تحقّق لنا وجودنا الإنساني أكثر من أي وقت مضى.

المراجع

  • شاكر، سيّد محمد، تجلّيات قضايا الهوية في الوطن العربي،  مجموعة مقالات مقدّمة خلال الندوة الدولية المنجزة في قسم الماجستير والبحوث في اللغة العربية وآدابها، كلية مدينة العلوم العربية، بوليك ال، كيراال، الهند، نوفمبر 2024.
  • خليل جبران، جبران، البدائع والطرائف، 1924، جرى الاسترداد في 17 نيسان 2025

https://foulabook.com/ar/book/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%81-pdf

  • Human Rights Watch (2021) – “Lebanon: Crisis Worsening Human Rights”.
  • Ong, Aihwa, Theoretical Foundations of Citizenship, Volume 23 Issue 2-3, May 2006, https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0263276406064831
  • Picard, Elizabeth, Lebanon: A Shattered Country, Holmes & Meier Pub; Revised, Subsequent edition (May 1, 2002).
  • Marshall T.H., Bottomore Tom, Citizenship and Social Class, Pluto Press, First Edition,1950.

 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد