اوراق خاصة

العيش على حافة النار وحرب بلا إعلان.. بين الذاكرة والتكرار

post-img

ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

تقول امرأة، تعيش في القرى الأمامية على الحدود الجنوبية، "لا نستطيع أن نبقى، ولا نريد أن نرحل.." هي عبارة قد تلخّص حال المواطن اللبناني الذي يعيش في بلد مقيّد بالخوف، ولكنّه مدفوع بالنجاة.

لبنان، اليوم، ليس فقط تحت الهجوم المستمر والاعتداء المتواصل، إنه عالق في منطقة رمادية من الحرب، حيث السيادة ممزّقة، والمواطنة معلّقة، والحدود بين الذاكرة والتوقّع، أصبحت ضبابية. لكن قد يسأل سائل: هل ما يحدث على الأراضي اللبنانية أمر مفاجئ؟ الجواب بالطبع لا، ما يحصل اليوم هو تعميق لحال مزمنة قائمة. ولكن كيف يعيش الناس في بلد يتأرجح بين الانهيار السياسي والمواجهة العسكرية؟ وماذا يعني الانتظار لحرب لا تُعلن، لكنها لا تنتهي؟

على الرغم من إعلان وقف لإطلاق النار، تتكثّف الغارات الإسرائيلية والاعتداءات على لبنان، فتتحول تكريس لاعتداءات مستمرّة، أدت إلى استمرار تهجير عشرات الآلاف من المدنيين اللبنانيين. إلاّ ان المختلف اليوم ليس فقط في الهجمات العدائية الهمجية، بل في زمنها، كما في تسرّب العنف إلى الحياة اليومية، بهدف جعل الأزمة مزمنة ونمطًا للوجود، وليس استثناءً منه.

أمام هذا الواقع، أُخليت قرى بأكملها، ودُمرت اقتصادات زراعية، وحُوّلت الأراضي إلى مناطق عازلة غير صالحة للسكن. ومع ذلك، ما تزال ردود الفعل الدولية، سواء من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أم القوى الغربية، أو الجهات الفاعلة الإقليمية، عالقة في دوامة الإدانة من دون اتخاذ خطوات ملموسة لفرض تطبيق الاتفاقيات الدولية التي أقرّتها قرارات الأمم المتّحدة وتحدّثت عنها الجولات الدبلوماسية.

في هذا الصدد؛ يجب علينا أن نتساءل ليس فقط عن العنف نفسه، بل أيضًا عن بنية الصمت التي تُغذيه.

التقاعس الدولي وظلال التصعيد

دعونا نتوقّف قليلاً  أمام القرارات الدولية، أو حتى غيابها، وهي القرارات التي يُفترض ألا تكون مجرّد إيماءات دبلوماسية؛ ولكنّها -مع الأسف- أفعال تمثيلية تُشير إلى معاناة تُرى، وتخرق سيادة قابلة للتفاوض، وتشهد على موت قابل للتغاضي عنه.

في هذا الإطار، حري بنا القول إنّ تكرار استحضار الدول لقرارات الأمم المتّحدة يكشف عن ازدواجية في المعايير؛ فبينما يُطلب من لبنان باستمرار احتواء المقاومة التي حرّرت أرضه من رجس الاحتلال ما يقرب من ربع قرن من الزمن، لا نجد سوى ندرة في الإشارة أو التطرّق إلى انتهاكات العدو الصهيوني اليومية لهذا القرار نفسه، بدءًا من اختراق السيادة لفضاء هذا الوطن، ولضربات الطائرات المسيرة، والاغتيالات الموجّهة، والتوغلات التي تُخالف مبدأ توازن الردع المفترض. ومع أنّ الولايات المتحدّة وبعض الدول في العالم تُعلن وتُعرب عن قلقها على الاستقرار الإقليمي، إلا أنّها وفي الوقت نفسه، تُواصل تزويد "إسرائيل" بالمساعدات العسكرية والغطاء الدبلوماسي الذي يُرحّب ويُسوّغ اعتداءات الكيان الصهيوني الوحشية والمستمرة. وذلك بناء على تقارير دائرة أبحاث الكونغرس (CRS).

في ظل ما يحصل، ما تزال ردود أفعال جامعة الدول العربية مُشتّتة، فهي تصدر بيانات خجولة، محدودة ورمزية إلى حد كبير، ومُقيدة باتفاقيات التطبيع والأزمات الداخلية. هذه القيود طالت أيضًا قوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) في جنوب لبنان، إذ نجدها مُقيدة بالمراقبة السلبية، وغالبًا ما تكون عاجزة عن منع أو حتى عن توثيق أي عدوان. وتاليًا؛ ما يزال لبنان يفتقر إلى الدعم المادي أو الدبلوماسي إلى حد كبير.

تاليًا؛ يبرز سؤال يفرض نفسه، عن حيادية المواقف الدولية، والتي تُرسّخ منطقًا جيوسياسيًا يُصبح فيه لبنان فضاءً للعدالة المؤجّلة، ويعتمد هذا المنطق على تجريد حياة اللبنانيين من حرّيتهم وقرارتهم الساعية إلى فرض سيادة وطنهم وتأمين مستقبل أفضل لأبنائهم.

المواقف الدولية وتناقضاتها

لقد وثّقت تقارير مجلس الأمن الدولي ما يجري في لبنان، وتقارير الأمم المتّحدة، باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية للقرار 1701. انتهاكات يومية للمجال الجوي: بتحليقها وتوغلاتها البرية في لبنان، وبالاغتيالات التي تنفّذها، والأفعال التدميرية للبنية التحتية والوحدات السكنية والمنشآت المتعدّدة...كما وثّقت هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية هذه الانتهاكات، وأكّدت أنّ "المدنيين في جنوب لبنان يواجهون قصفًا عشوائيًا .. ما يسفر عن سقوط ضحايا مدنيين، وعن تدمير منازل، إضافة إلى الهجمات على البنية التحتية الصحيّة ..". إنّ هذا العنف ليس عرضيًا، هو منهجي، يُسهّله إطار دولي يرفض محاسبة "إسرائيل"، بموجب القانون الإنساني الدولي.

في ضوء هذه التعقيدات، ربما نجد لزامًا علينا تذكير العالم بأنّ لبنان بلد مستقل، له حدود على بقعة جغرافية يُفترض أن تكون ذات سيادة، ويعيش على هذه الأرض شعب يطمح العيش بكرامة، ويسعى إلى بناء مؤسّسات تُعنى بشؤون أفراده.

تهديدات ومخاطر  التصعيد : أي آفاق باقية؟

يقدّم هذا الزمن المعلّق الذي نعيشه، لحظة تحليلية مهمّة، تتمحور في المستقبل الذي يُتخيّل في واقع يُتخيّل بلا ضمانات، وينظر في صنع الناس للمعنى وسط أفعال قسرية بهدف التهجير وزرع الخوف، ويطرح ألف سؤال وسؤال عن أشكال المقاومة الممكنة خارج السياسة التقليدية.

نشهد تباينًا في ردود الفعل الدولية، وفي مواجهة الأدلة المادّية على الانتهاكات، وفي ظل تشابكات القوى الإقليمية المعقّدة، يتوقف مستقبل لبنان في مواجهة العدوان الإسرائيلي على ما إذا كانت هذه الانتهاكات ستُعالَج بالدبلوماسية المتعدّدة الأطراف أم ستظل مُحاطة بسياسات الشرعية الانتقائية؟ وإذا كان هناك من أفق لهذه المخاطر في لبنان اليوم، في ظل الحرب أضحت تسكن تفاصيلنا، فبالتأكيد نراه في الإصرار على الحياة كما يفرضها اللبنانيون، بعيدين عن اليأس، ومقدّمين شواهد على الصمود وعلى العيش بعزة وكرامة وإباء.

إنّنا إذ نؤكّد أنّ الكتابة عن الوضع السائد ليست بهدف التحليل، هي فعل شهادة، كما أنّ رصد الغارات والاستهدافات والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة ليست مجرد بيانات عسكريّة، هي التركيز على مخاطر تهديد الوجود. ونحن هنا نستعرض ونوثّق، لا لتقديم حلول جاهزة، إنما لنمنح هذه اللحظات صوتًا وحضورًا يؤكّد على الحق المبرم لتحرير كل شبر من تراب الوطن على الرغم من الهجمات والمواقف التي تحاول شيطنة هذا الحق إضافة إلى تشويه الواقع وطمس وتزوير الحقائق.

كما تكمن الأهمية في توثيق الاتجاهات، وفي العمل على تشكيل الخطاب، والدفع نحو أطر لا تُعلي من شأن العدالة والسيادة فقط، وإنّما تسعى إلى فرضها ولو بالقوّة.

المراجع

  1. فينا داس، الحياة والكلمات: العنف والانحدار إلى العادي، جامعة كاليفورنيا، 2007.
  2. هنريك فيغ، "الأزمة والدوام: منظور أنثروبولوجي"، إثنوس، 2008.
  3. تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "تحديث الوضع جنوب لبنان"، آذار 2025.
  4. هيومن رايتس ووتش. "المدنيون في جنوب لبنان يواجهون قصفًا عشوائيًا". يناير/كانون الثاني 2024.
  5. دائرة أبحاث الكونغرس. المساعدات الخارجية الأمريكية لإسرائيل. آذار 2024.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد