د. زينب الطحان/ أستاذة جامعية وكاتبة
كشف المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق"، جملة من الحقائق التاريخية ذات الصلة المباشرة بالرؤية الثقافية الغربية للآخر المتجذرة، في سلالة أجيالها، إلى ما قبل الحروب الصليبية، والتي رفع عنها سعيد مدعمًا بالوثائق صفة الحروب المقدسة أو الحروب الدينية.
لقد كان هدفها الخوف الكبير من تمدد الحضارة الإسلامية حين كانت أنوراها تشرق على العالم، فقد استمرت تلك الحروب قرنين من الزمن، بدأت في القرن الحادي عشر وانتهت بهزيمة الفرنجة في القرن الثالث عشر. في هذا الصدد؛ أدى المستشرقون دورًا بارزًا في تركيب صورة عن العرب والمسلمين؛ أقل ما يقال عنها مضللة ومفبركة؛ مثلما يصور الإعلام الغربي اليوم أن الإسلام ينتج متخلفين ومجرمين وقتلة.
لكن أهم ما قام به أولئك المسشرقون هو سرقة علوم العرب والمسلمين بعد ترجمتها؛ لينسب لاحقًا الغرب الفضل لنفسه في إنتاجها وإبداعها، والتي طورها تباعًا وصولًا إلى ثورة التكنولوجيا وامتلاك أسس المعرفة وحتى احتكارها، ليهمين على دول العالم. وتباعًا نسبوا لأنفسهم التفرد في التفكير المبدع والقدرة في صناعة العلم. كما يُفصح سعيد أن الغرب، من خلال الدراسات الاستشراقية، عرّف شعوب الشرق بــ"حقيقتها" من باب أنه الأجدر بالفهم لامتلاكه العلم والمنهج. وعليه، فالغرب ينظر إلى العرب والمسلمين، وغيرهم من الشعوب، على أنهم قُصر ولا يملكون العقلانية لفهم ذواتهم لأنهم شعوب يحكمها الوجدان والانفعال، بينما أوروبا هي أرض العقل والبرهان.
منظومة الإمبريالية المعرفية
إن هذا المنطوق الغربي-الاستشراقي خلال تاريخه الاستعماري القديم حوّل الشرق الحقيقي إلى شرق مفكك قابل للاحتمالات كلها التي يريدها الغرب في صراعاته ليبقى الأقوى وله المركزية العالمية. وفي مقدمتها الفكر الإنساني الحديث، والذي ما يزال متشبثًا بفكرة الكونية المعرفية، أي خضوع المجتمعات البشرية لنماذجه التفسيرية العلمية والتاريخية، على اختلاف سياقاتها التاريخية والاجتماعية.
انطلاقًا من هذه المنظومة الإمبريالية: العالم الأوّل له معرفة، العالم الثالث له ثقافة؛ والأمريكيون الأصليون لهم حكمة، أمّا الأمريكيون من أصل إنجليزي فلهم علوم. في هذا السياق؛ عندما يحاول الشرق استعادة دوره الحضاري، منطلقًا من ثقافته الأصلية وعمادها الرؤية العقدية- الدينية، وتحديدًا الإسلام، محاولًا بناء معرفة تفسيرية علمية مغايرة للغرب، كي يعود مستقلًا سياديًا موحدًا له دور أساسي في تشكيل الوجود الإنساني للمستقبل القادم للأجياله؛ يقف "العالم الأول" حاملًا عصاه الغليظة مهددًا ومدمرًا لكل ما من شأنه أن يمكّن هذه القيامة والنهضة لشرق يستقل عنه ويصبح ندًا له.
في دائرة هذا الصراع؛ تمثل الصين وجهًا شرقيًا بارزًا، تتبعها روسيا- الواقعة بين الشرق والغرب- ثم الجمهورية الإسلامية في إيران، وهم الساعون إلى هذه النهضة. هنا؛ يأتي دور ما يسمّيه المفكرون المتنورون، حاليًا، "العصيان المعرفي". والمقصود به هو كسر قيود النمط الفكري الغربي المهيمن، والخروج من تحت عباءته.
في هذا السياق؛ أيضًا، لا يمكن نسيان بعض دول أمريكا اللاتينية التي تحاول التخلص من التبعية الثقافية والاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية. لقد أدرك محرّكو مجتمعات هذه الدول، وخصوصًا المثقفون المتنورون، إنه لا بد من خلق مسافة عن هيمنة الغرب الأمريكي مع الإيمان المصاحب له، وتجاوز قوانينه لاختبار بدايات مختلفة. وهذا يتطلب تعلُّم منظور جديد عبر خلق أطر مستقلة تغيّر الأولويات في معرفة مواجهة "المطرقة الاستعمارية" التي شكّلت رؤية الغرب للعقل، بحسب ما يصفها والتر ميغنولو (1941) المفكر الأرجنتيني المعاصر.
يرى عالم الاجتماع البريطاني الراحل جاك غودي (1919 - 2015) أن تعميمات العلوم الاجتماعية تضع الغرب في الموقع الطليعي في بناء المعرفة العامة والفروع المعرفية على أنواعها، فقد صوّرت في الأصل على أساس من الخبرة التاريخية الغربية. وهو يرى أن الإذعان للهيمنة الأوروبية الأميركية على المعرفة العالمية قد يكون مقبولاً في الوقت الراهن "بوصفها النظير سيئ الحظ، ولكنه النظير الذي لا مناص منه للتطور الموازي للقوة المادية والموارد الفكرية للعالم الغربي". لكن، يجب أن تُعرف، في رأيه، مخاطر هذه الهيمنة وأن تُبذل المحاولات المستمرة لتجاوز تلك المخاطر.
العصيان المعرفي الإيراني
أدرك الإمام الخميني الراحل، حين انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، أن بناء المعرفة هو قوة وسلطة، ولكنه رفض تماما الالتحاق بأي من المعسكرين في الشرق (الاتحاد السوفياتي الشيوعي السابق) والغرب الأوروبي الأميركي لبناء هذه القوة والسلطة؛ لذلك قال كلمته الشهيرة "لا شرقية ولا غربية"؛ إنما اختار الإسلام مرجعية أساسية تعود جذورها إلى زمن النبي محمد(ص) وآل بيته الأطهار. مع الإمام الخامنئي بدأ هذا التوجه الفكري المرجعي يتشكّل؛ حين أطلق حركية دائرية في مختلف قطاعات المجتمع الإيراني، فحوّل الخمول الذي كان سائدًا في عهد الشاه وأبائه إلى نشاط تغييري لا يهدأ، حتى أصبح الشعب الإيراني كله متعلمًا يدخل الجامعات التي وصل عددها اليوم إلى 29 جامعة، بعدما لم يكن فيها أكثر من بضعة جامعات رئيسة حتى وصلت إلى استقطاب طلاب أجانب من ستين دولة في العالم، حتى وصلت إيران اليوم إلى المراتب الأولى بين الدول المتقدمة علميًا، وجعلت العدو قبل الصديق يعترف بهذا التحوّل البنيوي الهائل.
منذ سنوات قليلة، أشارت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية إلى أن إيران تشهد تطورًا علميًا كبيرًا، في جميع المجالات، وتمتلك كثيرًا من القدرات العلمية. وقالت: "إن هذه القدرات العلمية تفسر كيف يزدهر البحث العلمي في إيران المعاصرة، ويختفي بشكل تدريجي في كثير من الدول العربية. وتفسر، أيضًا، كيف تمكّنت طهران من امتلاك معاهد بحثية متقدمة وصناعات عسكرية مستقلة وبرنامج نووي قوي". وفي هذا السياق؛ أعرب الجنرال في جيش الكيان الصهيوني "جاير غولان" أن الجمهورية الإسلامية لديها كثير من العلماء المتخصصين، في مختلف المجالات الصناعية والعسكرية، وتمتلك أيضًا بنية تحتية علمية شاملة. ولفت إلى أن "المجتمع الإيراني يشكّل، في وقتنا الحالي، حضارة ممتازة وقوية"؛ وأكد، قائلًا: "إن الإيرانيين يشكلون خطرًا كبيرًا على أمننا".(...). كما أكدت الصحيفة أن "إسرائيل" لجأت، خلال مرحلة سابقة، إلى القيام بالعديد من المناورات العسكرية الكبرى في المنطقة، من أجل مواجهة تأثير "المحور الإيراني" في سوريا؛ ولكن الأوضاع الحالية قد تتطلب القيام بتدخلات عسكرية".
يبدو أن هذا هو الهدف المحوري للعدوان الإسرائيلي العسكري، حاليًا، على الجمهورية الإسلامية في إيران، أي القضاء على هذه الحضارة الممتازة- بحسب وصف الجنرال الصهيوني- فهي التحدي الخطير وتطورها هو الأخطر على الكيان الصهيوني تحديدًا، كونه يشكّل رأس حربة لذلك العالم الغربي الأول الحريص كل الحرص على منع إيران من الوصول إلى تحقيق فعلي لحضارة إسلامية تعيد أمجاد إسلام القرن الثاني عشر الهجري، فتحكم العالم، ما يعني تقهقر الرافعة الغربية للعلوم الكونية والسيطرة على ثروات العالم بفضلها.
لقد كان السيد عبد الملك الحوثي اليمني دقيقًا، منذ يومين، حين قال، في كلمة له لمناسبة "يوم الولاية"، السبت 14 حزيران/يونيو 2025، إنّ: "العدو "الإسرائيلي"، ومن خلفه الغرب، يرون في الجمهورية الإسلامية في إيران دولة تبني نهضة حضارية وقوة إسلامية".
لا مناص أمام الجمهورية الإسلامية في إيران، بعد مسيرة عمرها أربعة وخمسين عامًا، إلّا الدفاع عن إنجازاتها الحضارية، خصوصًا وأنها ما تزال في خطواتها التأسيسية، وبذل الغالي والنفيس للحفاظ على النظام الإسلامي المحمدي الأصيل. ومسوؤلية كل شرقي مسلم، وحتى عربي أصيل، الوقوف إلى جانبها في معركتها المصيرية هذه؛ فهي معركة تمثل إيران فيها الشرق الذي حورب طويلاً لمنع قيامه مجددًا.
العدوان الإسرائيلي، والذي هو واجهة العدوان الأوروبي الأميركي، على إيران الإسلامية هو نموذج معاصر للحروب الصليبية القديمة، حين هرعت لتدك معاقل المسلمين زاعمة الحماية لمسيحي الشرق من ظلم المسلمين وتوحشهم.. السيناريو ذاته، اليوم، إنما بلبوس الادعاء الزائف "إحلال الديموقراطية" في دول الشرق..وذلك كله لأن إيران تمارس العصيان المعرفي..