عبد الله العلوي/ جريدة الأخبار
من منظور فوكوي، لا يُعدّ نزع السلاح مجرّد إجراء تقني أو عسكري، بل هو عنصر ضمن سياسة «تنظيم الجسد الاجتماعي»، أي تحييد الجماعة كفاعل سياسي وتحويله إلى كيان خاضع للضبط والمراقبة. وعندما تكون الدولة واقعة تحت نير التبعية أو خاضعة لقوى خارجية (كالأمم المتحدة أو الاحتلال أو النظام الدولي)، فإنها تؤدّي وظيفة الوسيط العقابي لا السيد السيادي، عبر:
- استعارة خطاب القوة الاستعمارية لتسويغ نزع السلاح وعقد مصالحات زائفة.
- أداء دور «السجّان المحلّي» الذي يعيد إنتاج الخضوع باسم «الاستقرار» و«المصلحة العليا».
يشدّد فوكو على أنّ المعركة لا تستهدف الجسد فقط، بل تتّجه نحو الذاكرة والخطاب، حين تُرغم مقاومة على التخلّي عن سلاحها، ثم تتعرّض للعقاب:
- يُعاد تأليف التاريخ الرسمي بما يُلغي البطولة ويحوّل المقاوم إلى «مخرّب» أو «متمرّد»، وأحيانًا إلى «ضحية أخطاء».
- تُفرض سرديّة مضادّة تجعل السلاح جريمة والمقاومة انحرافًا عن «الشرعية الوطنية».
نزع السلاح لا يُنهي المقاومة بل يدشّن عقابًا انضباطيًّا طويل الأمد. والعقاب لا يكون جسديًا فقط، بل رمزيًا وثقافيًا وتاريخيًا، يبدأ بتجريد المقاومة من سلاحها، ثم يمتدّ إلى الرموز والمؤسسات، بما تحمله من رأس مال مادي ومعنوي، وهوّية وذاكرة وحضور شرعي وشعبي.
بمنظور مكمل، فإنّ ما يُترجم من قبل «الانقلابيّين من أعلى» تجاه فعل المقاومة، لا يعكس فقط خضوعًا لإرادات أجنبية أو للمحتل، بل يكشف عن جوهر الدولة، بوصفها - وفق تشارلز تيلي - جريمة منظمة، تؤدّي وظيفتها المركزية في احتكار العنف، كما عرّفها ماكس فيبر.
التاريخ يفيض بإنذاراته الحاسمة لمن تسوّل له نفسه أن يُخضع المقاومة لقرار التخلّي عن السلاح في لحظة غفلة والانضواء تحت سقف الذئاب الجائعة. فالتاريخ لا يساند أولئك الذين جبلوا على تبرير تعطيل المقاومة ضد الغازي والمستبد... إذ ثمة وفرة من التجارب التي تكشف عن مآلات كارثية لتسليم السلاح، تنتهي غالبًا بمآسٍ جماعية تمثّل انتقامًا من فعل المقاومة، بل ومن فكرة المقاومة ذاتها.
لقد شكّلت حركات المقاومة في الماضي والحاضر خط الدفاع الأول عن الشعوب في مواجهة الاحتلال والتدخّل الأجنبي، لكن تجارب متعدّدة أثبتت أنّ هذه الحركات، حين تُرغم على التخلّي عن سلاحها، لا تُكافأ بالاندماج أو التقدير، بل تتعرّض إلى عقوبات من الأنظمة الخاضعة للهيمنة أو ذات الشرعية الواهنة. وعند دراسة نماذج بارزة لحركات المقاومة التي تمّ نزع سلاحها، يتبيّن بوضوح كيف أنها عوقبت لاحقًا سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا، رغم عدالة قضيّتها، لتكون النهايات مأساوية متشابهة.
حفلت التجربة الإنسانية بتكرارات مأساوية لخذلان حركات المقاومة المسلحة، سواء من أنظمة ادّعت تمثيلها، أو نتيجة ضغوط خارجية دفعتها إلى التخلّي عن سلاحها. وغالبًا ما شكّل هذا التخلّي بداية لمرحلة جديدة من البطش والإبادة، لا نهاية للنزاع.
سنستعرض هنا حالات من الماضي والحاضر تثبت هذا المسار، من أميركا الشمالية واللاتينية مرورًا بالقارة السوداء، وتاليًا إلى سوريا ومدغشقر والبوسنة وصولًا إلى آسيا، حيث القاسم المشترك هو: العقوبة بعد تسليم السلاح. ونجد في أرشيف المقاومات نماذج سريعة تُبرز ثمن نزع السلاح:
● في تجربة المقاومة البورمية ضد الاحتلال البريطاني (1885 - 1895)، انتهى مسار النضال بإجبار الزعماء المحلّيين على التخلّي عن السلاح، ثم تمّ نفيهم لاحقًا، وصودرت أراضيهم، وتفكيك البُنى القبلية المقاومة. وما كان يومًا رمزًا للكرامة تحوّل، عند نزعه، إلى تعبير عن استعباد اجتماعي وثقافي ممتدّ في الزمن.
● في العام 1896 اندلع تمرّد قبَلي في ناميبيا ضد الاحتلال الألماني، لكن عقب تسليم السلاح، جرى ترحيل آلاف السكان إلى معسكرات للعمل القسري وتفكيك النظام القبَلي بصورة شاملة، فكان نزع السلاح مدخلًا لتدمير الجماعة من الداخل.
● في سنة 1890 شرعت السلطات الأميركية في نزع سلاح شعب لاكوتا Lakota من السكان الأصليين، أثناء ممارستهم طقوس «رقصة الشبح» (Ghost Dance) التي كانت تمثّل مقاومة رمزية وروحية. وعندما طُلب من الهنود نزع أسلحتهم في منطقة Wounded Knee، نشبت مواجهة أدّت إلى مجزرة قُتل فيها ما بين 250 و300 من الرجال والنساء والأطفال. لقد تمّ توظيف هذه المجزرة كرمز لإنهاء الوجود المقاوم، عسكريًا وثقافيًا، لأمّة بكاملها، فجاء نزع السلاح حينها غطاءً لعملية تطهير عرقي ممنهج.
في تفاصيل المشهد، برز في أواخر القرن التاسع عشر طقس روحاني بين قبائل لاكوتا يُعرف بـ«رقصة الشبح»، وهي حركة تنبّأت بزوال المستعمرين البيض وعودة الأرض إلى أصحابها الأصليين. ومع أنّ الطقوس كانت سلميّة، رأت فيها السلطات الأميركية خطرًا سياسيًا لأنها جدّدت «الهوية الجماعية» ورفضت مشاريع الدمج القسري.
في 29 كانون الأول 1890، سعى الجيش الأميركي إلى «نزع سلاح» قبائل لاكوتا في منطقة Wounded Knee وانطلقت المجزرة بعد أن رفض أحد أفراد القبيلة، وكان أصمًّا، تسليم بندقيّته، فدوّى إطلاق نار فجّر مذبحة راح ضحيّتها مئات المدنيين من نساء وأطفال ورجال.
لقد مثّل ما حدث في Wounded Knee تجسيدًا عمليًا لجنوح الدولة نحو احتكار العنف وترسيخ سلطتها. ونزع السلاح لم يكن أداة أمنية بل أداة تطهير عرقي هدفها محو الذاكرة الجماعية وإنهاء المقاومة الثقافية والعسكرية.
المجزرة لم تكتفِ بالقتل الجسدي، بل حملت «رسالة سياسية» تقول: من يقاوم – حتى بالروح – يُبد. وفي النهاية، دُفن الضحايا في مقبرة جماعية، وتُوّج الجنود المنفّذون بميداليات شرف، لتكتمل الصدمة بإهانة موثّقة. ورغم أنّ Ghost Dance لم تكن تمرّدًا مسلحًا، فإنّ الردّ جاء بالغ القسوة. وهذا ما يطرح سؤالًا فلسفيًا جوهريًا: هل نزع السلاح يمهّد للسلام، أم يُستعمل لإخضاع الشعوب؟
● انتفاضة مورانت باي في جامايكا في العام 1865 شكّلت لحظة حاسمة في مسار مقاومة الاستعمار البريطاني، لكنها انتهت بعقاب جماعي دموي بعد إخماد التمرّد ونزع السلاح من الفلاحين.
قاد الانتفاضة بول بوغل، وهو واعظ أسود، ثار ضد الظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي طاول السود بعد إلغاء العبودية. وفي 11 تشرين الأول 1865، سار مئات من الفلاحين إلى دار القضاء في مورانت باي مطالبين بالعدالة. وبعد يومين، سيطر المنتفضون على معظم أراضي أبرشية سانت توماس. لكنّ الحاكم البريطاني إدوارد جون آير أعلن الأحكام العرفية وأرسل الجيش لقمع التمرّد بعنف شديد.
كثير من الثوار وقعوا في الأسر أو سلّموا أنفسهم وأسلحتهم بعد توقف المعارك، على أمل أن يكفل لهم القانون الحماية. غير أنّ ما أعقب ذلك لم يكن سوى عقاب جماعي: إذ ارتكبت القوات البريطانية مجازر دامية، راح ضحيّتها أكثر من 400 قتيل، بينهم مدنيّون كُثر، واعتُقل أكثر من 300 آخرين، من بينهم بول بوغل الذي أُعدم لاحقًا. ولم تكتفِ السلطات بذلك، بل مارست الجلد العلني بحق النساء والرجال، وسُجن العديد منهم لسنوات طويلة. كما أُعدم جورج ويليام غوردن، وهو سياسي من أصول مختلطة، رغم عدم مشاركته في التمرّد، فقط لدعمه مطالب الفقراء.
كانت الرسالة واضحة: لم يكن الهدف إنهاء العصيان فحسب، بل توجيه إنذار قمعي لأي مطالبة مستقبلية بالحقوق. لقد وظّفت بريطانيا آلة القمع هذه لتأكيد احتكارها للعنف والشرعية السياسية، وتمرير سيطرتها بوصفها «قانونًا». وفي سياق التجارب المناهضة للاستعمار البريطاني، برزت انتفاضات الزولو في جنوب أفريقيا: فبعد كل عملية استسلام وتسليم السلاح، كانت الجيوش البريطانية تشرع في تهجير السكان وسجن الزعماء، في تكرار لصيغة القمع المنهجي.
● بين عامي 1919-1921 خاض إبراهيم هنانو ثورة مسلحة في شمال سوريا ضد الاحتلال الفرنسي، لكن بعد تراجع الزخم العسكري، جرى تسليم السلاح في بعض المناطق تحت ضغط زعامات محلّية وظروف دولية معقّدة. ومع ذلك، لم تحترم فرنسا أي عهد بالمصالحة، بل شرعت في ملاحقة القادة وشنّ حملة تطهير سياسي واجتماعي شملت حتى طلاب المدارس وأخضعت المناطق «الخارجة عن الطاعة» لقبضة أمنية محكمة.
لاحقًا، فرض الاحتلال الفرنسي سيطرة قاسية على شمال سوريا، وشرع في تقسيم البلاد إلى دويلات (دمشق، حلب،...) في محاولة لتفكيك الوحدة الوطنية. فُرضت حالة قمع سياسي وثقافي على أنصار الثورة وصودرت الأسلحة وأُعيد تشكيل المشهد تحت سلطة المنتدب. وهكذا، لم يكن تسليم السلاح نهاية للمأساة بل بدايتها، إذ تبعه مشروع طمسٍ متكامل للهوية والمقاومة.
● في العام 1930، ثارت قبائل السيديقا في تايوان ضد الاحتلال الياباني، لكن ما إن سلّمت أسلحتها، حتى واجهت القبائل حملة إبادة جماعية عبر القصف بالغازات السامّة وحملات قتل جماعي. وبسرعة، تحوّل هؤلاء من أبطال إلى «قطّاع طرق» في الرواية الرسمية اليابانية.
● حين انطلقت الثورة الجزائرية في 1 تشرين الثاني 1954، كانت تعاني من ضعف في التسليح، فلم يكن بيد المجاهدين سوى نحو 400 قطعة سلاح، ما دفعهم لاعتماد إستراتيجية «خذ سلاحك من عدوك»، فاقتحموا مراكز الاحتلال الفرنسي واستولوا على السلاح، ما زعزع الثقة داخل المؤسسة العسكرية الفرنسية ومدّ المجاهدين بوسائل القتال.
لكن بعد الاستقلال، نشأت إشكالية متعلّقة بعملية تسليم السلاح، وسط غياب تنظيم دقيق ومؤسسات حاضنة للمقاومة. رفض كثير من المجاهدين التخلّي عن أسلحتهم، خشية أن تكون السلطة الجديدة امتدادًا للاستعمار أو غير قادرة على حماية أهداف الثورة. في المقابل، طبّقت السلطة الناشئة منطق الدولة الحديدي، ورأت في استمرار حمل السلاح تهديدًا للأمن العام، ما دفعها إلى معاقبة بعض المجاهدين وملاحقتهم أمنيًا.
يُسجَّل في تاريخ الاستعمار الفرنسي، خصوصًا في منطقة تبسة إبّان ثورة التحرير الوطني (1954–1962)، أنّ العقاب لم يكن موجّهًا للمقاتلين فقط، بل طاول أُسرهم. فشنّت سلطات الاحتلال حملة منهجية على العائلات، شملت اعتقال الآباء والأمهات والإخوة والأبناء، فقط لقرابتهم من مجاهدين.
زُجّ بالمعتقلين في مراكز تعذيب سرّية، مورست فيها أساليب بشعة: من الصعق الكهربائي، إلى التجويع والإذلال الجنسي، بهدف انتزاع معلومات أو الضغط على المجاهدين. كما تعرّضت منازل العائلات للحرق، وأُجبر السكان على ترك أراضيهم والانتقال إلى مناطق تحت السيطرة، وصودرت الممتلكات.
لم يكن ذلك فقط لإسكات المجاهدين، بل لتفكيك الحاضنة الاجتماعية وإيصال رسالة مدوية: الانتماء للثورة لا يُعاقب الفرد وحده، بل يتهدّد بقاء العائلة بكاملها.
● في 29 آذار 1947 شكّلت مدغشقر مسرحًا لإحدى أضخم الانتفاضات الأفريقية ضد الاستعمار الفرنسي، حين انطلقت الثورة بقيادة قوميّين من حزب «الحركة الديموقراطية لإصلاح مدغشقر»، بعد فشل محاولات التحرّر السلمي. استخدم الثوار أدوات بدائية مثل الرماح وهاجموا المواقع الفرنسية والمزارع الاستعمارية وانتشرت الانتفاضة بسرعة لتشمل أكثر من مليون مشارك في أرجاء الجزيرة.
بعد إعلان فرنسا عفوًا شكليًا مقابل استسلام الثوار وتسليم سلاحهم، انخدع كثيرون بالعَرض، لكن العفو لم يكن سوى فخّ سياسي. ارتكبت القوات الفرنسية مجازر مروعة، وصلت تقديرات ضحاياها إلى أكثر من 90,000 قتيل، وفق بعض المصادر. وتنوّعت الانتهاكات بين الإعدام الفوري والسجن الجماعي والتعذيب والاغتصاب، بل شمل القمع حرق قرى بكاملها، فيما عُرفت «رحلات الموت» بإلقاء السجناء أحياء من الطائرات.
اعتُقل قادة الحزب القومي وتعرّضوا للتعذيب والسجن حتى عام 1958. ترك هذا القمع ندوبًا غائرة في الذاكرة الوطنية وأدّى إلى تأخير الاستقلال حتى عام 1960. فالقصد لم يكن فقط إخماد الثورة، بل اقتلاع جيل من القادة والمثقّفين وسحق أي بذرة استقلال مستقبلي.
لقد استخدمت الدولة الفرنسية العنف المنهجي لا لحماية مصالحها فقط، بل لإعادة هندسة المجتمع بالقوة. وهكذا لم يكن نزع السلاح مدخلًا للسلام، بل شرطًا لبداية الإبادة.
● شكّلت ثورة «ماو ماو» في كينيا (1952 – 1960) إحدى أبرز حركات التحرّر الأفريقية ضد الاستعمار البريطاني، وقادتها قبيلة الكيكويو ضد سياسات نهب الأراضي والتمييز العنصري والخنق السياسي.
بحلول العام 1956، وبعد اعتقال القائد ديدان كيماثي، بدأت الثورة تتراجع وسلّم عدد كبير من الثوار أسلحتهم بفعل القمع العسكري ووعود العفو. لكن العفو لم يتحقّق، بل بدأ الاستعمار حملة تطهير مروعة. فقد زُجّ بأكثر من 150 ألف شخص في معسكرات اعتقال ولاقوا صنوف التعذيب، من الصعق والضرب والتجويع، إلى الاغتصاب بحق النساء والرجال والعمل القسري، ناهيك عن تنفيذ أكثر من ألف إعدام علني وهو الرقم الأعلى في تاريخ الإمبراطورية البريطانية أثناء الحروب.
أُلحقت بهذه الجرائم عملية تشويه إعلامي، إذ وُصمت حركة ماو ماو بـ«الهمجية» و«الإرهاب»، رغم أنها كانت حركة تحرير وطني. والمفارقة أنّ الحكومات الكينية التي تلت الاستقلال ساهمت لاحقًا في طمس ذاكرة الثورة، خشية أن تتحوّل إلى خطر على النظام السياسي الجديد. فبينما نالت كينيا استقلالها سنة 1963، لم يُعترف رسميًا بضحايا الثورة إلا بعد عقود طويلة.
● بعد نهاية الحرب البوسنية (1992 – 1995)، فرض اتفاق دايتون على كل الأطراف نزع السلاح، بما فيها قوات البوشناق التي خاضت المعركة دفاعًا عن وجودها ضد قوات صرب البوسنة المدعومة من بلغراد.
مع توقيع اتفاق دايتون، بدأت عمليات نزع السلاح والتسريح على نطاق واسع وفيما تمّ تجريد سلاح المقاتلين البوسنيين، احتفظ الصرب بسلاحهم. وقد تمّت العملية بشكل فوضوي، دون ضمانات أو حماية متوازنة، ممّا أدّى إلى استنزاف سريع لقدرات البوشناق الدفاعية.
في أثناء حصار طويل على مناطقهم، جُرّدت الحاميات المسلمة من السلاح الثقيل، رغم تصنيفها كـ«مناطق آمنة» تابعة للأمم المتحدة. لكن هذه الحماية كانت وهمية، ففي تموز 1995 دخلت القوات الصربية المدينة ونفّذت مجزرة إبادة جماعية اعترفت بها المحاكم الدولية حيث قُتل أكثر من 8000 مسلم بوسني أمام أعين المجتمع الدولي.
سبّب نزع السلاح خللًا أمنيًا كبيرًا لدى البوشناق الذين تُركوا دون حماية حقيقية، حتى بعد إنشاء جيش اتّحادي جديد. ورغم وجود برامج مثل «Train and Equip Program» لدعم هذا الجيش، إلا أنّ أثرها ظلّ هامشيًا ولم تمنع المجازر.
لقد تحوّل نزع السلاح إلى مدخل مباشر للنزوح والقتل والانكشاف، إذ استُهدفت المقاومة بعقاب فادح، كشف عجزًا مطلقًا من الأمم المتحدة، لا سيّما بعد أن قامت القوات الهولندية بتسليم المدنيّين للقوات الصربية بدلًا من حمايتهم.
يؤكّد مثال البوسنة بوضوح أنّ نزع السلاح تحت مسمّى السلام لا يضمن الأمن. في سربرينيتسا، ترافق النزع مع محو فعلي لكل أشكال المقاومة، ممّا أفسح المجال للإبادة الجماعية. فمن دون إعادة بناء السلطة وتأمين الحماية، يصبح تسليم السلاح نقلة من مقاومة شرعية إلى مصيدة موت جماعي.
في المحصّلة، تؤكّد الوقائع القديمة والمعاصرة أنّ الحركات التي تُجبر على نزع سلاحها لا تُستقبل بشكر أو دمج، بل تواجه غالبًا من أنظمة تابعة، خطر الشيطنة والملاحقة. فهذه الأنظمة تُعيد تعريف المقاومة كـ«تهديد داخلي»، وتتجاهل تمامًا شرعيتها الكفاحية. وحين يُنتزع السلاح في ظلّ غياب السيادة الوطنية، لا يُغلق ملف الصراع، بل يُفتح باب حرب من نوع آخر: حرب ضد التاريخ، والكرامة، والذاكرة.
تؤكّد النماذج كافة أنّ نزع السلاح لا يطوي الحرب، بل يفتح جرحًا جديدًا، هو جرح القمع المنظّم. ففي ظل غياب دولة سيّدة ومستقلة، يتحوّل نزع السلاح إلى أداة إخضاع ويُعاد تشكيل المجتمع كأطلال مفتوحة على الانهيار. فمَن لا يملك أدوات الدفاع، لا يملك ضمان الحياة أو حماية الحقوق أو صيانة الكرامة.