نور بعلوشة/ العربي الجديد
إبادة الكتب ليست مجرد عمليات تدمير غير محسوبة، بل هي واحدة من أكثر الجرائم الثقافية تأثيرًا في التاريخ. فقد شهد القرن العشرون العديد من الحملات المدبّرة والمُمنهجة لتدمير الكتب والمكتبات، برعاية أنظمة سياسية تهدف إلى محو كل ما يذكر بوجود ثقافات أو أفكار تختلف عن أيديولوجياتها. تمثّل هذه الحملات أسلوبًا منهجيًا لاستهداف الذاكرة الجماعية ومحاولة خلق فراغ ثقافي يسهل التحكم فيه.
كثيرًا ما كانت إبادة الكتب تترافق مع عمليات إبادة جماعية أو حملات تطهير عرقي، إذ اعتبرت الأنظمةُ المستبدة المعرفة والأفكار المتعارضة تهديدًا لسلطتها. في ظل هذه الظروف، يصبح الكتاب رمزًا للمقاومة. من حرق النازيين للكتب في ألمانيا، مرورًا بتدمير المكتبات في البوسنة على يد القوات الصربية، كانت هناك محاولات موجهة لكتابة تاريخ جديد يتجاهل الأصوات التي يراها الطرف الأقوى غير مرغوبة.
ليست أضرارًا جانبية
في السياق الفلسطيني، تؤكد الإبادة المستمرة للمكتبات والكتب على هذه الحقيقة. فالاحتلال لا يسعى إلى تدمير الوجود الفيزيائي للفلسطينيين فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تدمير سياقاتهم الثقافية والمعرفية؛ إذ تُمثّل المكتبات في قطاع غزة التي تضم تراثًا ثقافيًا غنيًا، أهدافًا رئيسية ضمن الاستراتيجيات الهادفة إلى سحق الهوية الفلسطينية. مع كل كتاب يُحرق أو يُدمر، يُتلف جزء من الذاكرة والهوية التي تربط الفلسطينيين بأرضهم وتاريخهم.
في رحلة أليمة مع إبادة الكتب، دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو 87 مكتبة ما بين عامة وأكاديمية ومدرسية. ونقلًا عن وزير الثقافة الفلسطينية عماد حمدان لم: "يكن ذلك مجرد أضرار جانبية"، بل كان "فعلًا متعمدًا وامتدادًا لتاريخ طويل من محاولات اجتثاث الوجود الفلسطيني عبر محو ذاكرته ومصادر معرفته". ووفقًا لما ذكره المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر عن المساس المستمر والممنهج للمكتبات وإحصاء ما فُقد خلال الإبادة من مكتبات، يقول: "من أهم المكتبات التي فقدناها وطاولتها أضرار ضخمة، كانت مكتبات كل من جامعات الأزهر، والجامعة الإسلامية، وجامعة الأقصى، وجامعة فلسطين، إضافةً إلى المكتبات العامة، ومنها مكتبة بلدية غزة التي حرقها الاحتلال ودمّرها كاملةً، ومكتبة القطان، ومكتبة العمري، ومكتبة العباس التي تضم آلاف الكتب، إضافةً إلى مكتبة مركز التخطيط التي تضم وحدها نحو 60 ألف كتاب، وتحتوي كتبًا أُحضرت من الخارج بعد عودة السُّلطة إلى فلسطين من تونس، وتضم كثيرًا من الخرائط والوثائق الهامة".
يضيف أبو النصر: "نتحدث أيضًا عن تدمير سابق لمكتبة عبد الله حوراني التي دُمّرت كاملةً، إضافةً إلى المكتبات العامة في منطقة دير البلح ومكتبة بلدية خانيونس العامة ومكتبة رفح، وعدد من المكتبات الخاصة بالجمعيات الثقافية، ومكتبة هاني الحسن في منطقة النصيرات".
في ظل هذه الإبادة الثقافية المستمرة، يبقى الأمل معقودًا على المؤسسات الثقافية التي تسعى إلى الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتعزيز المعرفة بين الأجيال القادمة. على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه المكتبات، لا يزال هناك نماذج ملهمة تُظهر قدرة المجتمع على المقاومة والإبداع.
لأرشفة ما تبقّى في وجه إبادة مستمرة
في هذا السياق، وبالإشارة إلى مكتبة مركز القطان للطفل، يقول مدير مركز القطان للطفل إبراهيم الشطلي إن المركز يضم، إضافةً إلى المكاتب وقاعات العمل والأنشطة المتعددة في الفنون البصرية والفنون السمع بصرية، والعلوم، وتكنولوجيا المعلومات والفنون الأدائية، مكتبة مختصة للأطفال تحوي ما يفوق 100 ألف مادة مكتبية. ويضيف الشطلي: "تقوم المكتبة على تقديم خدمات الإعارة الخارجية لمكتبات المدارس، فقد بلغ عدد الكتب المعارة عبر خدمة الإعارة لمؤسسات تعليمية ورياض أطفال خمسة آلاف و811 كتابًا، طالعها 14 ألفًا و697 طفلًا".
في إطار الإبادة، يشير الشطلي إلى تعرض المركز، كما العديد من المؤسسات الثقافية والمكتبات لبعض الأضرار في المبنى نتيجة إطلاق قوات الاحتلال قذائف وأحزمة نارية على المدينة، أصابت أجزاء من المبنى، وجراء إطلاق النار المباشر في أحد الاجتياحات على محيط المركز. وفقدت المكتبة العديد من محتوياتها نتيجة الفوضى والفلتان الأمني في المدينة، بعد اجتياح شرق وغرب وشمال المدينة خلال شهر يناير/كانون الثاني من العام الحالي. يكمل الشطلي: "لم نستطع إحصاء الأضرار والخسائر التي لحقت نتيجة استمرار الاعتداءات والقصف المستمر على المدينة".
في البحث عن الأساليب التي من الممكن انتهاجها لحماية المكتبات وإتاحة الفرصة للأطفال لمتابعة الوصول للكتب، يقول الشطلي: "لتوثيق كل منجزات وأرشفة ما تبقى، نحاول العمل على أتمتة المكتبة وأرشفة المعلومات عبر السحب الإلكترونية؛ ونحاول جادين بعد استهداف المؤسسات الثقافية والمكتبات على تفعيل القراءة الإلكترونية، ولكن في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت نتيجة الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة؛ نواجه صعوبات جمة في هذا الشأن ونبحث عن خيارات بديلة".
يرى المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر أن الوضع الراهن للمكتبات في قطاع غزة يشير إلى أزمة خطيرة تفوق ما حدث خلال اجتياح التتار لبغداد، فدُمّرت جميع مكتباتها وأُحرقت. يعبر أبو النصر عن قلقه من أن هذا التدمير يمثل محاولة موجهة لتجريد الشعب الفلسطيني من فكره وثقافته، ما سينعكس حتمًا على أجيال المستقبل التي فقدت كثيرًا من تاريخها والمعلومات والكتب والمخطوطات التي تضم مئات الآلاف من الأرشيفات والعناوين المختلفة في مجالات، مثل التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والطب وعلم النفس.
يشير أبو النصر إلى أن الاحتلال يهدف من خلال هذه العمليات إلى تجهيل الشعب الفلسطيني وإعادته إلى "العصر الحجري"، ظنًا منه أن ذلك ممكن. على الرغم من ذلك، يرى أبو النصر أن هناك تكنولوجيا قادرة على المساعدة في إعادة نهضة المكتبات، إذا توفرت الإرادة والعزيمة لبناء وترميم هذه المكتبات التي تحتوي كتبًا نادرة، ويمكن أيضًا الاستفادة من المكتبات العربية لجمع ونسخ تلك الكتب.
يؤكد أبو النصر أن القطاع فقد قرابة 80% من مكتباته، وهي نسبة مقلقة تشير إلى حجم عملية التدمير الثقافي. يرى أن هذا التدمير يعد جزءًا من عملية تطهير الثقافة الفلسطينية وأسرلة الفلسطينيين، ما سيؤثر سلبًا على كتابة التاريخ. لكنه يظل متفائلًا، معربًا عن أمله في قدرة الشعب الفلسطيني على النهوض مجددًا، مؤكدًا ضرورة إعادة بناء مكتباته من جديد.
يضيف أبو النصر أن بعض المكتبات، بما في ذلك مكتبته الخاصة التي تضم 20 ألف كتاب، إضافةً إلى المكتبات التي يمتلكها بعض المثقفين في قطاع غزة، قد تساهم في عملية إعادة بناء المكتبات الفلسطينية في المنطقة.
كتب بين ركام البيوت
في إطار توثيق هذه الإبادة، يقول الصحافي سائد السويركي، مدير "روسيا اليوم" في قطاع غزة": "بالنسبة إليّ، تدمير المكتبات العامة والأماكن الثقافية يكاد يكون الأصعب في هذه الإبادة؛ على الرغم من سقوط أكثر من 51 ألفًا من الشهداء والضحايا حتى الآن، لكن على ما يبدو أن النقمة الإسرائيلية ليست على الإنسان الفلسطيني فحسب، فالتدمير يطاول كل مكونات غزة الموجودة".
يضيف: "الأماكن والمكتبات الشخصية التي زرتها كانت في وضع صعب جدًا. على سبيل المثال، بيت الشاعر الفلسطيني باسم النبريص في منطقة خانيونس، والذي كان يمتلك مكتبة تضم عشرات الآلاف من الكتب، دمرته الصواريخ كاملًا؛ حتى صارت المكتبة كلها تحت الأنقاض، ولم يستطع أحد أن ينتشل كتابًا واحدًا".
يقول السويركي عن حادثة أخرى: "ذهبنا إلى بيت الروائي محمد أيوب؛ حيث كانت هناك آلاف الكتب ملقاة في الطابق الثاني الذي يعيش فيه. وكلما اقتربت من مكان بيته، كنت أشاهد عددًا كبيرًا من الكتب المتناثرة والمحترقة والممزقة. وبالطبع، ليس من الصعب أن نعرف أن هذه الكتب تعود إلى محمد أيوب، الذي اجتهد في اقتنائها لعقود". ويضيف: "مشهد الكتب وهي ملقاة على الأرض يذكرني بالضحايا الذين يرتدون الأكفان في انتظار دفنهم"، متابعًا: "للأسف، دُمّرت غالبية المؤسسات الثقافية الموجودة في قطاع غزة، والآن أنا موجود في مدينة غزة، لا يوجد مكان واحد كنا نزوره لحضور فعاليات ثقافية أو فنية لا يزال قائمًا".
في إطار تفاؤلي بعض الشيء، يقول السويركي: "هناك تجربة جميلة جدًا أود أن أشارككم إياها. كان صديقي الفنان التشكيلي عبد الرؤوف العجوري قد أدرك مبكرًا أن هذه الإبادة ستكون خطيرة، فضمّ كل الأعمال الفنية الموجودة لديه بجمال، وأحاطها بالأغطية ووضعها تحت السرير، على أمل أن تنجو من النار. وفعلًا، قُصف البيت؛ فاستعان العجوري بأشخاص يعملون في الدفاع المدني لإنقاذ الأعمال الفنية من تحت الأنقاض؛ وهي تضم أعمالًا مهمة جدًا بالنسبة إليه. وثّقت العملية وكنت أشاهد عينيه وهما تلمعان مع كل قطعة تُنتشل من تحت الأنقاض". يختم السويركي: "أتمنى أن نستطيع استخراج شيء من الموروث الثقافي الذي نمتلكه، لكن هذا صعب جدًا الآن".
تطهير عرقي وثقافي
في شهادته عن إبادة الكتب، يقول مسؤول الدعم النفسي وإدارة الحالي في مؤسسة التعاون، سفيان بدر: "لقد كان أهم شيء بالنسبة إليّ هو أن أعود للبيت، وأجد مكتبتي الصغيرة قائمة، وأعود لأتصفح كتاب إيلان بابيه "التطهير العرقي في فلسطين" لقيمته المهمة. فكوني لاجئًا، أشعر بارتباط وثيق مع تفاصيل هذا الكتاب. وحين عدت ووجدت بيتي مدمّرًا، كنت أتمنى أن يكون هذا الكتاب سليمًا". يضيف: "لكن الكتاب قد احترق. كنت أفكر في النزوح الذي عايشته، وأفكر في التهجير الذي قرأته في الكتاب، ما زاد من ارتباطي العاطفي به. وكنت في وقت سابق للحرب على القطاع قد قطعت عهدًا على نفسي أن يقرأ أبنائي هذا الكتاب؛ في حين لم تسنح لي الفرصة أن أنقذه معي".
يضيف بدر: "كنت أفتش بين الكتب الناجية، واكتشفت أن هناك كتبًا في مكتبتي لها علاقة بالأطفال والحرب والمواثيق الدولية الحامية للأطفال في وقت الحروب، وهي جزء من تدريب أخذته في العام 2003 مع منظمة الصليب الأحمر الدولية. وأتذكر وقتها أنني تساءلت: لماذا يتم تدريبنا على هذه الموضوعات؟ هل من الممكن أن نصل لهذه الحالة؟ أن يأتي وقت نتحدث فيه عن المفقودين وغير المصحوبين ـ أقصد الأطفال هنا ـ وكنت أتصور أن هذه السيناريوهات بعيدة، مرتبطة بأطفال مناطق نزاع مثل الصومال أو ما شابه، ولم أكن أتخيل أنها ستكون جزءًا من حياتي الشخصية وبيتي".
جاءت هذه الإبادة على كل المكونات، ونهشت النار أجساد الفلسطينيين وقصصهم وذاكرتهم ومكتباتهم وحياتهم، حتى صارت نجاة ورقة تعادل نجاة بيت. وفي الوقت الذي نجد فيه المثقفين ينعون كتبهم ومكتباتهم مثلما ينعون أصدقاءهم وأهلهم وأحبتهم، نعرف أن كل شيء في غزة أساسي لمستقبلها، وأن الفلسطينيين يعرفون جيدًا أن الإبادة والتطهير هما أيديولوجيا قائمة على إنهاء ذاكرة الفلسطينيين تمامًا، وإنهاء صلتهم بهذه الأرض، في محاولة لعزلهم عن تاريخهم ومستقبلهم، وهو ما نتمنى أن يكون الفلسطينيون قادرين، في ظل كل هذا الموت، أن يلتفتوا إليه.