اوراق خاصة

بعد عامين من التحوّلات الكبرى .. "نصر إسرائيلي" أم اتجاه نحو الهاوية؟

post-img

د. زينب الطّحان/ كاتبة وأستاذة جامعية

تروّج قيادة الاحتلال الإسرائيلية، منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لخطاب يفيد بأن الكيان الصهيوني (إسرائيل) يخوض معركة وجودية، وعملياتها العسكرية في غزة وعدوانها على لبنان ونجاحها في سلسلة الاغتيالات الممنهجة لقادة المقاومة اللبنانية و"ردّها على الهجمات الإيرانية" بعدوانها على الجمهورية الإسلامية، تشكّل سلسلة من "الانتصارات الحاسمة" التي تعيد ترميم ردعها وتثبّت دورها الإقليمي. غير أنّ هذا الخطاب، عند إخضاعه للتحليل العلمي في منهج المقارنة بين النتائج الميدانية والمعطيات البنيوية، داخل الكيان، يكشف وجود فجوة واسعة بين الإنجاز العسكري التكتيكي والواقع الاستراتيجي المتدهور.

يعتمد هذا المقال على قراءة تحليلية موسّعة لرؤية المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه- بات معروفًا بمؤلفاته الأكاديمية التي توثق جرائم الاحتلال وفاشيته وعنصريته ضد الفلسطينين والمطرود من فلسطين- كما وردت في دراسته المنشورة في آواخر العام 2024، والتي قدّمت إطارًا تفسيريًا متكاملًا لمسار الصهيونية بصفتها مشروعًا يمرّ بمرحلة التفكك البنيوي. ويفترض المقال أنّ ما يظهر إعلاميًا نصرًا عسكريًا ليس سوى مؤشرات على أزمة بنيوية تجعل "إسرائيل" أقرب إلى نموذج "الدولة" المتفككة منها إلى نموذج القوة الإقليمية الصاعدة أكثر هشاشة من أي وقت مضى، وتمثّل قشرة دعائية تغطي تشققات عميقة تهزّ أسس المشروع الصهيوني نفسه.

يذهب "بابيه" إلى أبعد من الأسئلة التقليدية عن نصر وهزيمة، ليقدّم فرضية تاريخية صادمة: ما نشهده ليس صراعًا في غزة أو لبنان أو إيران، هو مرحلة الدخول في بداية نهاية المشروع الصهيوني بعد 120 عامًا على تأسيسه. يستند في ذلك إلى مؤشرات بنيوية يرى أنها تتراكم لتقود إلى لحظة انهيار قد تكون أسرع مما يتوقعه العالم.

أولًا- الانقسام الداخلي الحاد

"إسرائيل" دولتان تتصادمان؛ يعرض بابيه صورة مجتمع إسرائيلي منقسم إلى كيانين: "دولة إسرائيل" (المعسكر العلماني – الأشكينازي – الليبرالي)، والتي تريد دولة قومية يهودية بواجهة ديمقراطية، مع استمرار استبعاد الفلسطينيين. 

ثانيًا- "دولة يهودا" (المعسكر الديني – القومي – الاستيطاني)،

يريد دولة توراتية تمتد على كامل فلسطين التاريخية مع تقليص عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى وبناء "الهيكل الثالث".

يُظهر بابيه أن الشقاق بين هذين المعسكرين لم تتمكّن حرب غزة من ردمه، إنما عمّقته:

1.    عاد الانقسام خلال أسابيع قليلة.
2.    تظاهر مئات الآلاف داخل الكيان ضد نتنياهو.
3.    هاجر نصف مليون إسرائيلي من الطبقات الوسطى العلمانية منذ أكتوبر/تشرين الأول في العام 2023، أي بعد عملية "طوفان الأقصى" المباركة.
4.    تزداد قوة المستوطنين داخل الجيش والسياسة.

ما علاقة هذا بالادعاء الإسرائيلي النصر؟

إن أي نصر حقيقي في التاريخ يحتاج إلى وحدة داخلية صلبة، في حين "إسرائيل" تعيش واحدة من أخطر لحظات تفككها الداخلي. 

أولًا- الجيش الذي يقاتل في غزة ولبنان هو جيش منقسم الولاءات، يعمل في ظل مجتمع يتصدّع بنيويًا. وذلك يجعل أي إنجاز عسكري غير قابل للاستثمار السياسي.

ثانيًا: الانهيار الاقتصادي؛ حرب لا يمكن تمويلها؛ الاقتصاد الإسرائيلي انكمش بنسبة 20% في الربع الأخير من 2023، وهو تراجع يعادل أزمات مالية كبرى في تاريخ العالم، وازداد في العامين التاليين (2024-2025) وخلال الحرب والعدوان على ثلاث جبهات (غزة – لبنان- إيران) أصبح التمويل معتمدًا كليًا على الولايات المتحدة الأمريكية.

يضاف إلى ذلك:

1.    هروب الرساميل من "إسرائيل".
2.    نقل الشركات الكبرى جزءًا من أعمالها خارجها.
3.    عقوبات اقتصادية من دول؛ مثل تركيا وكولومبيا؛ وإن لم تكن جدية في مفاعليلها، لاسيما تركيا- أردوغان.
4.    عجز حكومة الاحتلال عن ضبط الموازنة.
5.    ضخّ الميزانية باتجاه المستوطنات بدل البنى الأساسية.
في الخلاصة: الانتصار الحقيقي لا يقوم على اقتصاد ينهار، ولا على دولة لا تستطيع تحمّل تكاليف الحرب إلا بقروض ومنح خارجية.

ثالثًا- العزلة الدولية… "إسرائيل" دولة منبوذة

لأول مرة في تاريخ الكيان المؤقت:

1.    محكمة العدل الدولية تتهم "إسرائيل" بارتكاب إبادة جماعية.
2.    المحكمة الجنائية الدولية تطلب اعتقال قادة إسرائيليين.
3.    موجة عالمية من المقاطعة والرفض غير مسبوقة.
4.    مظاهرات مليونية في الغرب يقود بعضها شباب يهود.
5.    حكومات في أمريكا اللاتينية تقطع العلاقات معها.

هذه المعطيات تشير إلى أن "الانتصار العسكري" لا قيمة له حين تفقد الدولة شرعيتها الأخلاقية والقانونية، والدول المنبوذة لا تربح الحروب، بل تؤجل هزائمها.

رابعًا- تآكل دعم يهود العالم… زلزال صامت

يشير "بابيه" إلى أن الجيل اليهودي الشاب في العالم، ولاسيما في الولايات المتحدة، لم يعد يرى "إسرائيل" "وطنًا روحيًا"، بل هي "دولة" فصل عنصري بكل معنى الكلمة. وهذا أخطر من أي هزيمة عسكرية؛ لأنه يضرب:

1.    قوة اللوبي الصهيوني.
2.    تماسك الهوية اليهودية العالمية في تفاعل يقوض الهوية اليهودية الصهيونية في "إسرائيل".
3.    مصادر التمويل والدعم السياسي الاستراتيجي.
4.    شباب يهود، اليوم، ممن يقودون حملات احتجاج داخل الجامعات الأمريكية ضد "إسرائيل" نفسها.
هذا التحول التاريخي لا يمكن للانتصارات العسكرية أن تلغيه.

خامسًا- جيش الاحتلال الإسرائيلي… قوة تملك سلاحًا فتاكًا تفتقر إلى القدرة

من أهم ما كشفته معركة "طوفان الأقصى" في غلاف غزة:

1.    فشل استخباراتي – عسكري شامل.
2.    عجز جيش الاحتلال عن القتال من دون غطاء أمريكي مباشر.
3.    الحاجة إلى آلاف الجنود الاحتياط من الخارج.
4.    اعتماد مرعب على الذخيرة الأمريكية.
5.    خسائر بشرية ومادية تفوق ما تسمح به بنية مجتمع المستوطنيين.

يقول "بابيه" صراحة: "من دون الدعم الأمريكي العاجل، فإنّ "إسرائيل" عاجزة حتى عن مقاتلة فصائل مقاومة صغيرة"، وهذا ينسف تمامًا خطاب "الجيش الذي لا يُقهر".

سادسًا- قوة جديدة تتشكّل… جيل فلسطيني أكثر وعيًا وتنظيمًا

يرى "بابيه" أن طاقة الشباب الفلسطيني، في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة والشتات، هي العنصر الأكثر إرباكًا لــ"إسرائيل":

1.    وعي سياسي جديد أكثر تحررًا من التبعية.
2.    رغبة في تنظيم حركة تحرر بديلة عن المجتمع الدولي والسلطة الفلسطينية.
3.    تفضيل حل الدولة الواحدة الفلسطينية.
4.    قدرة على ابتكار أشكال جديدة للمقاومة والبقاء.

إن الحرب التي أرادت "إسرائيل" من خلالها سحق الفلسطينيين وإبادتهم انتهت إلى خلاف ذلك تمامًا؛ لقد أدت إلى ظهور جيل أكثر اتحادًا وصلابة من أي وقت مضى.

ماذا عن "النصر الإسرائيلي" في غزة ولبنان وإيران؟ هل هو حقيقي أم وهم؟

أولًا- في قطاع غزة

"إسرائيل" دمّرت البنية التحتية، وقتلت الآلاف من الفلسطينيين، لكنها فشلت في:

1.    القضاء على المقاومة.
2.    منع تجدد العمل الفدائي.
3.    إعادة الأسرى.
4.    إعادة ثقة المستوطنين بــ"جيش الدولة".
5.    فرض نظام سياسي أكثر تبعية لأميركا، خسرت فيه المساحة التي كانت مستقلة سابقًا.
6.    غزة تحوّلت إلى مركز تفجير الأزمة الإسرائيلية لا الفلسطينيّة.

"إيلان بابيه" شبّه "طوفان الأقصى" بزلزال ضرب مبنى متصدّع؛ فالضربة لم تُنشئ الشقوق، بل كشفتها وعمّقتها.

ثانيًا- في لبنان

جيش الاحتلال الإسرائيلي عاجز عن فرض أي صورة من صور النصر الحقيقي:

1.    فشل في ردع حزب الله.
2.    تلقّى ضربات عسكرية ونوعية متواصلة خلال اجتياجه البري في العام 2024.
3.    يعيش المستوطنون في الشمال نزوحًا مفتوحًا.
4.    الاقتصاد الإسرائيلي لا يحتمل حربًا شاملة.

في عمق الوعي الإسرائيلي، يتعامل مجتمع المستوطنيين مع حزب الله قوةً تملك قدرة تدميرية أكبر مما تستطيع "إسرائيل" تحمّله سياسيًا.

ثالثًا- في مواجهة إيران

الهجوم الإيراني في نيسان/أبريل وعدوان العدو على إيران في حزيران كشف أن "إسرائيل":

1.    لا تستطيع التصدي وحدها.
2.    تعتمد بالكامل على مظلة دفاع دولية.
3.    عاجزة عن الردّ على هجوم مباشر.
4.    مرتبكة أمام محور مقاومة متعدد الجبهات.
هذا يتناقض جذريًا مع خطاب "القوة الإقليمية العظمى".

بعد كل ما تقدم؛ نعود ونطرح السؤال : هل الانتصار الإسرائيلي وهم أم حقيقة؟

الجواب وفقًا لهذه المعطيات: الإنجازات الإسرائيلية عسكرية تكتيكية؛ لكن الصورة الاستراتيجية تشير إلى مسار انهياري أعمق؛ إذ ما يبدو "نصرًا" في غزة أو "ردعًا" في لبنان أو "إحباطًا" للهجمات الإيرانية هو في الواقع:

1.    معارك دفاعية لا معارك انتصار.
2.    محاولات لشراء الوقت لا لبناء مشروع.
3.    ردود فعل غاضبة من "دولة" في ذروة ضعفها البنيوي.
4.    تراجع في الردع
5.    إرهاق اقتصادي
6.    انقسام داخلي
7.    عزلة عالمية
8.    جيش أكثر هشاشة
9.    مجتمع هجين يفقد ثقته بذاته وتزداد أزمة هويته تأزمًا.

هذه العناصر كلها تجعل "النصر الإسرائيلي" أقرب إلى الوهم الاستعراضي منه إلى إنجاز حقيقي.

 

في الختام:

"إسرائيل" في لحظة قوة عسكرية، لكنها في حقيتقتها هي تعيش أضعف حلقات أزمتها الوجودية في محطيها العربي والإسلامي. اليوم، هي قد تملك صواريخ وطائرات وجيشًا قادرًا على تدمير المدن وقتل الآف من البشر، لكنها – بحسب قراءة بابيه ومؤشرات الواقع – تعيش أضعف لحظاتها الوجودية منذ تأسيسها؛ فالمشاريع الاستعمارية لا تنهار حين تهزمها الجيوش وحسب، أيضًا حين تنهار من داخلها، و"إسرائيل" اليوم تواجه:

1.    انقسامًا تاريخيًا
2.    اقتصادًا مهددًا
3.    عزلة عالمية
4.    جيشًا فاقدًا للثقة
5.    مقاومة فلسطينية تتجدد
6.    محورًا إقليميًا أكثر تماسكًا
7.    بيئة دولية متغيرة جذريًا

هكذا يصبح سؤال: هل انتصار "إسرائيل حقيقي؟ غير دقيق؛ والسؤال الحقيقي هو: هل يمكن لـ"دولة" في هذا الوضع البنيوي أن تنتصر أصلًا؟

هذا ما تُظهره المراجعة التحليلية لمسار الأحداث أن ما يُسوَّق بوصفه "انتصارًا" إسرائيليًا في غزة أو في الاشتباكات مع لبنان وإيران لا يتجاوز غالبًا كونه نجاحات تكتيكية محدودة الأثر، يجري توسيعها إعلاميًا لتبدو وكأنها تحولات إستراتيجية كبرى. غير أنّ المتابعة الموضوعية لمجريات الميدان والسياسة تشير إلى أنّ هذه الإنجازات ، بما في ذلك ضربات نوعية أو عمليات اغتيال أو تقدّم محدود في بعض المحاور، لا تنجح في تعديل بنية التدهور البنيوي الذي تعانيه المنظومة الصهيونية في فلسطين المحتلة.

الصحف الغربية والإسرائيلية على السواء تتحدّث عن أنّ مؤسسة الاحتلال العسكرية باتت تعمل في إطار ردّ الفعل أكثر من كونها صاحبة المبادرة، وأنّ "الإنجازات" التي تُعلِنها حكومة الاحتلال تأتي في سياق محاولة ترميم الردع أكثر من كونها انتصارًا حقيقيًا. هذا ما يظهر من توصيفات إعلامية متعدّدة تتحدث عن "الإرباك الإستراتيجي" داخل دوائر اتخاذ القرار في "تل أبيب"، وعن اعتماد القيادة الإسرائيلية على عمليات استعراضية قصيرة المدى تُستخدم لإقناع الجمهور الداخلي بقدرتها على الإمساك بزمام المبادرة.

كما أنّ تحليلات صحف دولية أشارت إلى أنّ الضربات التي تنفذها "إسرائيل" ضد أهداف في غزة أو في لبنان لا تغيّر في واقع أنّ البيئة الإقليمية تتحرك باتجاه تراجع نفوذ المشروع الصهيوني وتنامي عزلة الحكومة اليمينية المتطرفة داخل المجتمع الدولي. وهناك تقارير إسرائيلية نفسها تُقِرّ بأنّ الردع الذي كانت تعتمد عليه "تل أبيب" تقليديًا يعيش، اليوم، أعمق أزماته منذ تأسيس الكيان. في المقابل، تتناول مقالات أخرى مسألة أنّ الحركة الصهيونية، على الرغم من مظاهر القوة العسكرية المتفوقة، تواجه أزمة وجودية مركّبة، تتجسّد في الانقسام الداخلي وتراجع الثقة بالمؤسسة العسكرية وتصاعد الكلفة الاقتصادية للحروب المتكررة، فضلًا عن فشل إستراتيجي في فرض صورة "الانتصار الكامل" على أي جبهة. هذه العناصر مجتمعة تؤدي إلى أنّ ما يُقدَّم بوصفه "نصرًا" ليس إلا إطارًا دعائيًا ظرفيًا يُخفي حقيقة الانحدار البنيوي للمشروع الصهيوني.

تقرير صحيفة "هآرتس" الصهيونية عن الانهيار الداخلي لمنظومة الردع؛ إضافة إلى مقالات تحليلية في صحف الغارديان وواشنطن بوست تناولت مأزق القرار الإستراتيجي في "إسرائيل"، وتحدثت عن التفوّق الإعلامي لا التفوّق الميداني. تحليل موقع "ميدل إيست آي" تحدث عن "العسكرة الدعائية في الخطاب الإسرائيلي"، وتغطية نيويورك تايمز عن "انعزال إسرائيل سياسيًا بعد اتساع رقعة المواجهة"، وتقرير القناة 12 الإسرائيلية عن "أزمة الردع بعد الحرب على غزة"، ومقال رأي في فايننشال تايمز عن "تصدّع الجبهة الداخلية في إسرائيل"، وتحليل الجزيرة نت عن "حدود القوة الإسرائيلية في المعادلة الإقليمية"، وغيرها.. وغيرها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد