اوراق خاصة

القائد صانع الأمجاد ورمز الوطنية في دروس التاريخ وضرورة الاستعداد الدائم

post-img

د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام

يعلّمنا التاريخ أنّ الأمم التي تغفو على وسادة الاطمئنان تُفاجأ على وقع الهزيمة، فمنذ سقوط الأندلس بعد ثمانية قرون من الحضارة الإسلامية، إلى الانهيار السريع لفرنسا أمام جحافل الاحتلال النازي، تتكرّر أمامنا العبرة الكبرى: العدو لا ينام… بل يترصّد اللحظة التي نغفل فيها عن الاستعداد.

اليقظة الدائمة والإعداد المستمر مطلبان رئيسيان؛ لأن الغفلة أول طريق الهزيمة. مع انّنا ندرك جيّدًا أنّ أشكال التهديد قد تغيّرت، ولكن جوهرها بقي واحدًا، السيطرة والهيمنة. لقد غداالعالم الذي نعيش فيه ساحة مفتوحة لمنافسات شرسة؛ حيث يُستغلّ الضعف ويُكافَأ الاستعداد.

نحن نعيش، اليوم، في زمن الحروب الهجينة، حيث تختلط الدبابات بالفيروسات الرقمية، والرصاصة بالشائعة، وساحة القتال بالفضاء الافتراضي. ومن لم يستعد لكل هذه الجبهات، سيجد نفسه رهينة لحظة ضعف واحدة، تكفي لتغيير مصير أمّة بأكملها. من هذا المنطلق، يّصبح التسليح الشامل، عسكريًا، واقتصاديًا، وثقافيًا ليس ترفًا، بل شرطًا للبقاء الكريم.  بقاء يُترجم عبر جيشٌ قويّ يردع، واقتصادٌ صلب يحمي، وشعبٌ واعٍ يرفض الخضوع؛ هكذا تُصان الكرامة الوطنية، وهكذا يُبنى الوطن الحصين.

الاستعداد إذًا ليس شأن الحرب وحدها، بل هو استراتيجية يومية حتى في زمن السلم، ومصير الأمم لا يُحسم فقط عند الحدود، بل يُصاغ أيضًا في الجامعات والمصانع وفي الكتب والمعامل، وفي وحدة المجتمع وصلابة روحه. مصير يُصاغ إذًا في ساحات التعلّم حيث يُزرع الوعي، وفي المختبرات حيث تتطوّر التقنيات، وفي المصانع حيث يُبنى الاقتصاد، وفي الإعلام حيث تُصان الروح الوطنية، هذه الاستعدادات في زمن السلم، فكيف إذًا في زمن الحرب.

المقاومة في لبنان ضرورة وجودية في مواجهة عدو متربّص

لبنان، هذا الوطن الصغير بمساحته، الكبير بتاريخه وصموده، البلد الذي يتميّز بتكوينه الفريد، عاش وما يزال يعيش على خط الزلازل الجغرافية والسياسية. منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي (1948)، وليس بدءًا من اجتياح (1978) ومرورًا بالاحتلال الشامل (1982)، وصولًا إلى يومنا هذا، والعدو الإسرائيلي الذي لم يُخفِ يومًا أطماعه التوسعية في أرض لبنان ومياهه، ويترصّد حتى سمائه، بالاحتلال حينًا، وبالعدوان المتكرّر أحيانًا.

أمام هذا الواقع، لم تنشأ المقاومة خيارًا ترفيهيًا أو انطلاقًا من قرار سياسي عابر؛ بل كانت قدرًا وضرورة، تحوّلت مع استمرار الاعتداءات الصهيونية إلى ضرورة وطنية وجودية لحماية السيادة والهويّة. واقع فرض نفسه، استجابة طبيعية لشعبٍ وجد نفسه وحيدًا في مواجهة عدو لا يعترف بحقوقه، ولا يتورّع عن سفك الدماء واغتصاب الأرض.

بين الاتهام بالانتماء الطائفي وحقائق التاريخ

تطالعنا بين الحين والآخر، تساؤلات عدّة، وتُثار إشكاليات في جدوى وجود مقاومة في هذا الوطن الصامد، ويتردّد صدى الأسئلة ليقول:  أليست المقاومة عبئًا على لبنان؟ أليس سلاحها سببًا في استهدافه؟ وأسئلة أخرى كثيرة تنهل من ذات النبع.

الجواب يتجلّى في التاريخ: لقد احتُلّ الجنوب اللبناني منذ العام 1978، واحتلت بيروت في العام 1982، قبل أن تولد المقاومة بالشكل المنظّم الذي هو عليه اليوم. فغياب المقاومة حينها لم يمنع العدوان، بينما وجودها هو الذي أجبر العدو على الانسحاب، وهو الذي جعل لبنان اليوم أكثر أمانًا من أن يُبتلع أو يُساوَم.

لقد أثبتت المقاومة الوطنية اللبنانية، وفي طليعتها حزب الله، أنّها الفاعل الحاسم في معادلة الصراع؛ فبعد احتلال استمرّ أكثر من عقدين، جاء التحرير في العام 2000 ليشكّل الانسحاب الإسرائيلي الأول من أرضٍ عربية من دون اتفاق أو شروط. هذا الانتصار التاريخي الذي دفع بمراكز الأبحاث الغربية إلى إقراره والاعتراف به، جعل المقاومة ضمانة الشعب الأولى في وجه تهديدات مستمرّة، خاصة في ظلّ عجز المؤسّسات الدولية عن فرض حماية فعلية للبنان.

انتصارات المقاومة فرضت معادلة جديدة على أرض الواقع، فالوطنية ليست كلمات تُقال على المنابر، هي دماء الشهداء، وصبر الأمهات، وتضحيات الأسرى والجرحى. والوطنية تتجلّى في أن نحمي الأرض والإنسان، وأن نصون الكرامة ونحفظ القرار الحرّ.

المقاومة بين الاتهام والحقائق دفاعٌ عن الوطن أم تدميرٌ متعمّد؟

كثيرًا ما يُثار الاتهام عن المقاومة في لبنان، بوصفها ليست سوى مشروع طائفي ضيّق، أو أداة تُنفّذ إملاءات خارجية. ولكن، أليس من حقنا أن نسأل: هل تصمد هذه المزاعم أمام حقائق التاريخ ووقائع الأرض؟

دعونا نتأمل معًا، ولنفكر بتعقّل وحكمة، لو كانت المقاومة مشروعًا طائفيًا، كيف نفسّر إذًا، أنّ أولى عملياتها بعد التحرير في العام 2000 كانت لتحرير الأسرى من مختلف الطوائف اللبنانية، لا من طائفة بعينها؟ وكيف نفسّر أن دماء آلاف الشهداء، من الجنوب والبقاع وبيروت والجبل والشمال، امتزجت في ساحة واحدة هي ساحة الدفاع عن لبنان كلّه، لا عن جزء منه؟ أليس هذا أبلغ دليل على أن مشروعها وطني جامع لا يُختزل في طائفة أو فئة؟

التحرير نفسه شاهدٌ لا يُدحض: ففي أيار 2000، لم يتحرّر الجنوب لطرف دون آخر، بل تحرّر لبنان كلّه من نهره الكبير إلى حدوده الجنوبية من محتل مجرم، ومعتدٍ وغاشم. المقاومة التي وقفت على خطوط النار لم تفرّق بين مواطن وآخر، بل جعلت دماءها جسرًا لحماية الجميع من دون استثناء.

أما الذين يسألون ويتساءلون: ألم تكن قرارات الأمم المتحدّة كافية لتحرير الجنوب؟ فالجواب واضح كوضوح نور الشمس، القرار 425 صدر منذ العام 1978، وبقي اثنين وعشرين عامًا مجرّد حبر على ورق، ولم تُحرّك الأمم المتحدة جنديًا واحدًا لتطبيقه، ولم تفرض، ولن تفرض أي قوّة دولية على "إسرائيل" أن ترحل. ولو اعتمد لبنان على تلك القرارات وحدها، لظلّ الاحتلال جاثمًا على أرضه. ولكن المقاومة حوّلت الورق إلى واقع، والمعاناة إلى حرية.

المقاومة هي التي فرضت معادلة جديدة على العدو، إن أردت البقاء في أرضنا، فستدفع الثمن غاليًا. عندها فقط، أدركت "إسرائيل" أنّ الاحتلال صار عبئًا استراتيجيًا لا يُحتمل، فانسحبت ذليلة في العام 2000، بلا قيد ولا شرط، في أول انسحاب غير مشروط من أرض عربية محتلة..فأي منطق يقول إنّ هذه المقاومة مشروع طائفي أو أداة خارجية، بينما هي التي أثبتت أنّ لبنان، بكل طوائفه وأطيافه، قادر على انتزاع حقّه حين يتوحّد ويملك الإرادة؟ الحقيقة التي يجب أن نواجه بها أنفسنا والعالم، أنّ الحقوق لا تُمنح بالوعود، ولا تُستردّ بالخطابات، بل تُنتزع بالفعل، بالتضحيات، وبإرادة لا تلين.

في مقلب آخر تُثار الشكوك وتُرمى التساؤلات بالقول: لماذا تدخلت المقاومة في معركة "طوفان الأقصى"؟ ولماذا عرّضت لبنان للخطر؟ وغيرها من الأسئلة التي تستحق التأمل والتفكير. لننظر إلى الحقيقة التاريخية والمنطقية، إلى صراعنا مع العدو الإسرائيلي، ليس نزاعًا محدودًا أو مؤقتًا؛ هذا الصراع الوجودي، يمتد من فلسطين إلى حدود وطننا لبنان، هذه الحدود التي لم تحم وطننا يومًا من العدوان العابر للقارات، والحقائق التاريخية تثبت ذلك.

لقد إسرائيل غزت لبنان في 1978 و1982 من دون أي عمليات مقاومة في الجنوب، ولم يكن لبنان يومًا بمنأى عن مشروع "إسرائيل الكبرى"، الذي يسعى إلى ابتلاع الأرض وتهجير الناس ، وهو ما تفعله اليوم في غزّة جهارًا أمام أعين العالم جميعًا. و لو كانت المقاومة صامتة في معركة طوفان الأقصى، مثلًا، لكان العدوان قد حصل بأي حجّة أخرى، كما صرّح بذلك قادة إسرائيليون عدة مرات. فالعدوان  كان سيحصل بوجود المقاومة أو بدونها، والتاريخ يشهد.

أمّا لمن يسأل عن التدمير الذي شهدناه، وما نزال نرزح تحت تهديدات العدو، في الجنوب والبقاع ومناطق أخرى من لبنان نتيجة لهذه الحروب مع العدو. حول ذلك نقول: هذا التدمير بالتأكيد لم يكن بفعل المقاومة، بل بفعل "إسرائيل" التي قصفت المنازل، والشوارع، والأحياء السكنية، وهدّدت آلاف المدنيين بالتهجير، أمر حصل باعتراف تقارير منظّمات الأمم المتّحدة نفسها. لذلك؛ توجيه اللوم للمقاومة، وتوجيه أصابع الاتهام إليها، يشبه إلقاء اللوم على الضحية لمقاومتها ظالمها، وهي حجة لا تقبل النقاش أمام الوقائع.. فهل البدائل الذي يقترحها المنتقدون هي في الصمت أمام المجازر؟ أم الاعتماد على المجتمع الدولي الذي لم يتحرك أمام مجازر استمرت أشهرًا وفاقت السنوات؟ وفي ذلك تُظهر التجارب التاريخية أنّ الضعف لا يجلب السلام، بل يجلب المزيد من العدوان.  والمقاومة، رغم كلفة تدخّلها، تبقى الضمانة الوحيدة لكرامة لبنان وأهله، وحمايةً لهم من مصير أكثر قسوة.

في هذا الإطار، يشهد الجميع انّ شهداء المقاومة وجرحاها، الذين قدّموا أرواحهم وأجسادهم على درب الحرّية، لم يسألوا عن طائفة من دافعوا عنهم، ولا عن هوية من احتموا بهم. بل كانوا لبنانيين أولًا وأخيرًا، فهل نُجازي تضحياتهم بالتشكيك؟ أم نكرّس الحقيقة الناصعة، أنّ المقاومة، ومهما تعدّدت محاولات الطعن بها ومحاولات التشويه لدورها، كانت وستبقى مشروعًا وطنيًا جامعًا، يحمي الأرض والكرامة والسيادة؟

المقاومة درع الوطن في مواجهة التحدّيات

كثيرة هي الشواهد الدالّة على دور المقاومة الإسلامية في لبنان، دومًا كما في أصعب الظروف. فقد أثبتت بالفعل أنّها حمت الجميع. خلال عدوان تموز 2006، على سبيل المثال، لم يقتصر الدفاع بصواريخ المقاومة عن مناطق محدّدة، بل كانت تحمي كل لبنان من العدوان الإسرائيلي. وفي العام 2017، خاضت المقاومة معركة تحرير الجرود من تنظيم "داعش" الإرهابي، ولم تكن حينها مذهبية ولا شيعية، بل كانت ردعًا يحمي كل لبنان بالتعاون الدائم مع الجيش اللبناني، ما حمى لبنان من دمار أشبه بما حصل في غزّة اليوم وكلّ يوم.

لماذا برأيكم، قدّم حزب الله تضحيات جسام لتحرير أراضٍ وأسرى من مختلف الطوائف لو كان مشروعه طائفيًا؟

تُظهر هذه العمليات، بما لا يقبل الشك، أنّ المقاومة كانت تسعى لحماية جميع اللبنانيين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية. وبالتالي، أمام تلك الأصوات التي تتعالى على المقاومة من هنا أو هناك، نقول: إن الوطنية الحقيقية تُقاس بالتضحيات من أجل الجميع، وليس بالخطب والتصريحات. المقاومة قدّمت ما هو أكثر من الإثبات؛ قدّمت الشهداء والجرحى دفاعًا عن سيادة لبنان كلّه، وليس جزءًا منه.

القائد صانع الأمجاد ورمز الوطنية والافتخار والعظمة

من رحم هذه التحدّيات، برز من قائد الأمّة برؤيته إلى نور النصر. قائد وضع الوطن فوق كل معيار.. فكان بشهاد العدو قبل الصديق، شخصية استثنائية جمعت على مدى أربعة عقود بين الوفاء للأرض والناس، والشجاعة في مواجهة العدوان، والحكمة في إدارة الأزمات.

قائد استثنائي هو سماحة السيّد المقدّس حسن نصر الله، والذي حوى في اسمه وحكمته وإدارته ما ترجمه إرثًا وطنيًا وإنسانيًا جامعًا طوال عقود من الزمن. شهد لبنان زمن هذا القائد الذي حمى كل اللبنانيين، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من دون تمييز طائفي أو مناطقي.

قائد ساند الجيش اللبناني، وقاتل الإرهابيين، وحوّل المقاومة إلى درع يحمي الوطن والمواطن. ولم يكتفِ بالدفاع عن الأرض وحدها، بل امتدّت إنسانيته لتشمل المستشفيات والجامعات والمؤسّسات العامة والخاصة، بهدف تخفيف معاناة الناس في أصعب الظروف الاقتصادية، وضمان المواد الأساسية للجميع من دون تمييز.

قائد قدّم دليلًا حيّا على أن الوطنية ليست كلامًا على الورق، بل هي عمل، وإرادة، وصمود، وعزم لا يلين.  أفعال تجلّت خلال الاعتداءات الصهيونية على لبنان، وفي مواجهة الإرهابيين في الجرود، كما في دعم الجيش اللبناني، والمؤسّسات العامة والخاصّة. مثّل هذا القائد الدرع الحامي الذي يجعل الوطن مكانًا آمنًا للجميع.

قائد استطاع أن يوازن بين القوّة العسكرية والحكمة والإنسانية، وبين التخطيط الاستراتيجي وحماية الشعب وتأمين الرعاية الاجتماعية، دون إغفال لعملية بناء مؤسّسات مستدامة بكل ما أوتي من طاقة وعزم.

قائد كان وما يزال رمز التضحية الحقيقية والوطنية العملية؛ جسّد معنى القيادة المتكاملة التي لا تقاس بالشعارات، بل بالأفعال، وبالدماء التي سُفكت في سبيل حفظ تراب الوطن، وبالابتسامة التي لطالما زرع من خلالها الأمل على وجوه الناس، وفي قلوبهم وعقولهم على حد سواء.

قائد حَسْبُه مِنْ صَدِيقٍ مَا شَهِدَ بِهِ الأعْدَاءُ؛ قائد اضطر أعداؤه،  سواءً كانوا سياسيين أو عسكريين أو إعلاميين إلى الإقرار بصفاته القيادية الاستثنائية. بارع بالسياسة وفق اعترافات العديد من المحلّلين الاستراتيجيين الغربيين والإسرائيليين، في ظل إقرار خصومه بأنّه لا يتورط في حروب لا يحسب نتائجها بدقّة، ويُصرّحون بأنّه يمتلك قدرة فائقة على قراءة الخريطة السياسية الإقليمية والدولية واللعب عليها لصالحه.

قائد؛ وصفه الخبراء العسكريون الإسرائيليون بـ "مهندس ميدان بارع" و"عقل تكتيكي استثنائي"، كما أُجبروا على الاعتراف بقدرته على تنفيذ عمليات معقّدة، وذلك وفق تقارير مراكز الأبحاث الإسرائيلية (مثل معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي - INSS) التي تحلّل "نموذج حزب الله" العسكري باحترام شديد وقلق أكبر، معترفة بكونه التهديد الأكثر تنظيمًا وتعقيدًا على حدود إسرائيل.

قائد، يعترف الأعداء بقدرته على "توقّع تحركات خصومه" و"الاستعداد للمواجهات قبل سنوات"، وذلك بناء على تصريحات ضباط إسرائيليين سابقين اعترفوا بأنّهم استهانوا بقدراته وذكائه، وأنّهم دخلوا حروبًا كان هو مستعدًا لها بشكل أفضل بكثير.

قائد، يقر المحلّلون بأنّه "خطيب مفوّه" يعرف كيف يخاطب عواطف قاعدة أنصاره، ويتمتّع بشعبية جارفة، ويشيرون إلى قدرته على الحشد والتأثير على الرأي العام، ما يجعله ظاهرة سياسية يصعب تجاهلها أو تقويضها بسهولة. ولطالما ركّزت التغطية الإعلامية الغربية على "قوّته الجماهيرية" و"القدرة على حشد الآلاف" في خطاباته، معبّرة عن دهشتها من هذه الظاهرة.

قائد، يعترف الجميع بأنّه يقدّم نموذجًا للخدمات الاجتماعية داخل وطنه، ولطالما تحدّثت التقارير الغربية عن كيفية تعامل حزب الله مع أزمات مثل: انفجار مرفأ بيروت، أو جائحة كورونا،  أو الانهيار الاقتصادي والمالي الذي فرض على لبنان. اعتراف قسري ينبع من مواجهة واقع نتائج هذه الصفات على الأرض، والتي فرضت نفسها حتى على من لا يتقبل أيديولوجيتها.

قائد، وصفه الأعداء كما الخصوم، بالـ"شجاع" والـ"صامد" و "لا يتراجع عن تهديداته"، كما "لا يفرّط في كلمته ووعده"، و"يحافظ على هيبة قوتّه الردعية". يجتمع في هذا القائد الاستثنائي بكل ما للكلمة من معنى، القوّة والعدالة معًا، ليصبح مثالًا حيًا للقيادة المتكاملة.

باختصار، نحن أمام قائد استثنائي، جمع بين الوفاء للوطن والتضحية الإنسانية، والبصيرة الاستراتيجية، والقيادة الأخلاقية. استثناء جعله نموذجًا شاملًا لقائد وطني حقيقي في ظروف لبنان الصعبة. ويتجلّى معه الفرق بين من يكتفي بالكلام، وبين من يقف على الأرض، يحمي ويبني. فحماية الأرض والناس ليست شعارات تُقال، بل أفعال تُرى، وتضحيات تُشعر بها كل أم وطفل وكل مواطن عاش في زمنه بأمان وكرامة.

الخطاب المضلّل في مواجهة التاريخ، والمنطق، والحقائق

دعونا نتوقف لحظة ونسأل: هل قراءة التاريخ بشكل سطحي تكفي لفهم حاضرنا؟ أم أن تجاهل الوقائع هو ما يُغذي الإشاعات والخطابات المضلّلة؟  في خضم هذه التحدّيات، يطفو خطاب بين الحين والآخر، يحاول تصوير الشيعة في لبنان على أنّهم "غرباء" أو "حاملون لمشروع خارجي"، خطاب لا يقوم على حقائق، بل على تسييس التاريخ وتحريف الواقع.

في هذا الإطار لنستعرض ماذا يقول الواقع، منذ تأسيس لبنان حتى اليوم، كان الشيعة جزءًا أصيلًا من هذا الوطن، شاركوا في بناء الدولة، ودافعوا عن الأرض، وقدّموا التضحيات الكبرى في مواجهة الاعتداءات على كل لبنان، وليس على طائفة دون أخرى. فلنفكّر معًا، هل يمكن لأي تحليل سياسي عاقل أن ينكر أنّ الخطابات عن "الترحيل" أو "إعادة التوطين" تحاكي استراتيجيات قديمة هدفت فيما هدفت لتقسيم المجتمع وخلق صراعات داخلية؟ كما هل يمكن تجاهل أنّ الشيعة، عبر المقاومة السياسية والعسكرية، أسّسوا قوّة ردع حافظت على سيادة لبنان وأمنه أمام قوى خارجية وتهديدات مستمرّة؟

عندما أُعلنت "دولة لبنان الكبير"، في العام 1920، اعترض بعض الزعماء الموارنة، على ضمّ الجنوب والبقاع، لماذا؟ يجيب المؤرّخون ومنهم صليبا: لأنّ هذه المناطق كانت في غالبيتها شيعية، ويُنظر إلى أهلها كجزء من "المحيط العربي" وليس من قلب لبنان.

إذًا، منذ اليوم الأول لإعلان دولة لبنان الكبير، وُلدت الدولة وفي خطابها تشكيك في انتماء كامل لهذا المكوّن. واليوم، نرى تكرارًا لهذا الخطاب نفسه، ففي الغرف المغلقة، وفي بعض وسائل الإعلام، تُطرح "حلول" لمأزق لبنان، حلول تتحدّث عن إعادة التوطين أو ترحيل الشيعة إلى العراق. هنا تسطع الحقيقة، هذه ليست مجرد حكايات إعلامية، إنّها استمرار لــ"القصّة" القديمة نفسها، نحن أمام إعادة إنتاج لفكرة أن الشيعي "ليس لبنانيًا بما فيه الكفاية"، وأن ولاءه موجّهًا نحو خارج الحدود.

لكن، دعونا نفكر معًا، هل الشيعة اليوم ضعفاء كما كانوا قبل قرن ويزيد من الزمن؟ بالطبع لا. لقد بنوا إرادةً وقوّةً جعلت تنفيذ أي مشروع تهجيري ضدهم مستحيلًا. فـ"القلوب المليانة" لم تعد مليئة بالألم فقط، بل امتلأت بالعزيمة والتصميم على البقاء والدفاع عن حقها في الأرض والوطن . يقول المثل: "القصّة مش رمانة… القصّة قلوب مليانة"، واليوم هذه القلوب تحمل صمودًا، ووعيًا، وتصميمًا على الدفاع عن لبنان الذي يتسع للجميع، بلا تمييز، وبلا تهجير، وبلا اتهام أو تهميش.

نعلم جيّدًا أنّ قوة أي مجتمع تقاس بقدرته على حماية جميع أبنائه، وليس باستهدافهم أو تهميشهم؛ بينما  يسعى الخطاب المضلّل إلى تفتيت هذا الرابط الوطني، لكنه سيفشل حتمًا أمام الوقائع. أمام ما يحصل، وما يُقال، دعونا نسأل بصراحة: هل الوطنية شعارات تُرفع، أم أفعال تُبنى على التضامن والتضحيات؟ وهل أي حديث عن "ترحيل" أو "إعادة توطين" يمكن أن يقدّم حلًا؟ أم أنه يكرّس الانقسامات ويزرع بذور صراعات جديدة؟

التاريخ يعلّمنا، والمنطق يؤكّد، أنّ الحل الحقيقي يكمن في إعادة بناء دولة المواطنة التي تحمي كل مكوّناتها، وتكرّم التضحيات، وتمنع أي مشروع تقسيمي، سواء كان محليًا أو إقليميًا أو دوليًا. وفي هذا الإطار، يصبح السؤال الحقيقي لكل متابع: هل نختار الخطاب المضلّل الذي يزرع الكراهية، أم نختار الوقائع والحقائق كأساس لفهم حاضرنا وبناء مستقبلنا؟

المعيار المزدوج .. ما بين الشرق والغرب

واقع يُرسم  في هذه المنطقة، يطرح ألف سؤال وسؤال، لماذا تُسوّق المقاومة في الغرب دائمًا على إنّها"حرب عادلة" ضد طغيان واضح. أمّا في العالم العربي فمقاومة الاحتلال غالبًا ما تُصوّر عبر عدسة سياسية، وتتعرّض للنقد أو تُوصم بالإرهاب..فلماذا برأيكم يُحتفى بمقاوم الغرب ويُرفض شرعية مقاوم الشرق؟ هذا التناقض يكشف عن ازدواجية المعايير السياسية، لكنه لا يقلّل من قيمة المقاومة نفسها، هنا يكمن الفرق الجوهري.

ممّا لا يقبل مجرّد الشك، انّ المقاومة قيمة إنسانية عالمية، والتضحيات من أجل الأرض والحرية ليست حكرًا على ثقافة أو أمّة دون أخرى. ففي الماضي نسأت المقاومة في فرنسا، واليونان، والجزائر .... واليوم في فلسطين ولبنان واليمن … جميعهم يتشاركون نفس الروح التي تتجلّى في الإرادة التي لا تُقهر، وفي الصمود أمام القوّة، وفي التضحيات التي تُخلّد في ذاكرة الإنسانية. والجميع يقر ويعترف إنّ الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالتضحيات والإرادة، درس يجمع كل مقاوم في التاريخ، وسيبقى.

المراجع والمصادر

UNIFIL. (2022). Report of the Secretary-General on the United Nations Interim Force in Lebanon. United Nations.

Rid, T. (2020). Cyber War Will Not Take Place. Oxford University Press.

Saouli, A. (2019). Hezbollah: Socialisation and Its Tragic Ironies. Edinburgh University Press.

Cambanis, T. (2016). A Privilege to Die: Inside Hezbollah’s Legions and Their Endless War Against Israel. Simon & Schuster.

Watts, V. (2010). A History of the Later Medieval World: 1250–1500. Oxford University Press.

Norton, A. (2007). Hezbollah: A Short History. Princeton University Press.

Hanf, T. (2005). Coexistence in Wartime Lebanon: Decline of a State and Rise of a Nation. I.B. Tauris.

Harik, J. P. (2004). Hezbollah: The Changing Face of Terrorism. I.B. Tauris.

Jackson, J. (2003). France: The Dark Years, 1940-1944. Oxford University Press.

Picard, E. (2002). Lebanon: A Shattered Country. Holmes & Meier.

Fisk, R. (2001). Pity the Nation: Lebanon at War. Oxford University Press.

Makdisi, S. (2000). The Lessons of Lebanon: The Economics of War and Development. I.B. Tauris.

Karnow, S. (1997). Vietnam: A History. Penguin Books.

Mazower, M. (1993). Inside Hitler's Greece: The Experience of Occupation, 1941–44. Yale University Press.

Rousso, H. (1991). The Vichy Syndrome: History and Memory in France since 1944. Harvard University Press.

Salibi, K. (1988). A House of Many Mansions: The History of Lebanon Reconsidered. University of California Press.

United Nations. (1978). Security Council Resolution 425. Retrieved from https://digitallibrary.un.org

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد